الجمعة، 3 ديسمبر 2021

تَعلِيمُ النِّسوَان أَنَّ حَقَّ الزَّوجِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ رَمَضَان


تَعلِيمُ النِّسوَان

أَنَّ حَقَّ الزَّوجِ مُقَدَّمٌ

عَلَى قَضَاءِ رَمَضَان

  

 

تأليف

أيوب بن رشدان




بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل حق الأزواج عظيما، والصلاة والسلام على من كان بالعالمين رحيما، نظَّم الحياة بين الزوجين حكمة وتنظيما، وعلى آله وصحبه الذين أقاموا شريعته واتبعوا سنته رغبة فزادوا في نسائهم محبة وتكريما، وبعد..

فإني مسطر في هذه الورقات -على عجالة- حكم (صوم المرأة قضاء رمضان بغير إذن زوجها) مع أنها ليست بمسألة خفية عند السادة الشافعية! إلا أنه تم اعتراضي فيها من شافعي!! حينما قلت بعدم جواز صيام المرأة إلا بإذن زوجها مادام الوقت متسعا! لذا وجب عليَّ التبيين وعدم كتم العلم، وعليه فالجواب كما هو في مذهب السادة الشافعية الفضلاء وبالله التوفيق وعليه التكلان أنه:

لا يجوز للمرأة أن تقضي رمضان دون إذن زوجها ما دام الوقت متسعا؛ إذ أن قضاءها على التراخي وحق الزوج على الفور، فيجب عليها تقديم حقه الذي هو على الفور على قضاء رمضان الذي هو على التراخي، لكن إن لم يبق متسع من الوقت لقضائها فإن قضاءها يكون على الفور ولو بغير إذنه ولا تأثم حينها.

ثم إن صامت قضاء رمضان بغير إذنه والوقت متسع أثمت مع صحة صومها -كمن صلى على أرض مغصوبة فإن صلاته تجزئه مع الإثم- وإن لم يكن للزوج فيها غرض أو حاجة، وجاز للزوج أن يأمرها لتبطل صومها، فإن أبت فهي ناشز لا تستحق نفقة الزوجية منه.

هذا هو ملخص كلام السادة الشافعية في هذه المسألة، إلا أني أزيد البحث نقولا حتى يطمئن الشاك المرتاب، ويتأكد عنده صحة ما ألقيناه من جواب، فنقول:

قال الإمام النووي في المجموع [18/243+244]: "(فرع) فإن صامت المرأة بغير إذن زوجها نظرت: فإن كان تطوعا فللزوج منعها منه وله إجبارها على الفطر بالأكل والجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه)، فإن امتنعت من الوطء ولكنها لم تفارق المنزل ففيه وجهان. قال أبو علي بن أبى هريرة هي ناشزة فتسقط نفقتها لأنها ممتنعة عليه، فلا فرق بين أن تمتنع بالفراش أو بمفارقة المنزل، وقال المصنف: لا تسقط نفقتها، لأنها ما لم تفارق المنزل فهي غير ناشزة. وهذا قول الشيخ أبى حامد، ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطء سقطت نفقتها وجها واحدا، وإنما الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطء. وإن كان الصوم واجبا نظرت: فإن كان صوم رمضان فليس له منعها منه ولا تسقط نفقتها به لأنه مستحق بالشرع. وإن كان قضاء رمضان قال صاحب البيان: فإن لم يضق وقت قضائه فله منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه، وإن ضاق وقت قضائه -بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء- لم يكن له منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه لم تسقط نفقتها بذلك، لأنها لا يجوز لها تأخيره إلى دخول رمضان فصار مستحقا للصوم كأيام رمضان وإن كان الصوم عن كفارة كان للزوج منعها منه، لأنه على التراخي وحق الزوج على الفور. وإن الصوم نذرا -فإن كان في الذمة- كان له منعها منه لأنه على التراخي وحق الزوج على الفور...الخ"اهـ

وفي المجموع أيضا [18/242]: "(فصل) وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان (أحدهما) لا تسقط نفقتها لأنها في قبضته (والثاني) وهو الصحيح أنها تسقط لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة، وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها، لأن ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه. وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها، لأنها منعت حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور.."اهـ

وقال الرافعي في شرح الوجيز [6/465]: ".. وهذا كله مبني على انقسام القضاء إلى ما هو على الفور وإلى ما هو على التراخي وهو الأشهر؛ فالأول: ما تعدى فيه بالإفطار لا يجوز تأخير قضائه؛ لأن جواز التأخير ترفيه لا يليق بحاله، قال في التهذيب: وليس له والحالة هذه التأخير بعذر السفر، والثاني: ما لم يتعد به كما في حق الحائض والإفطار بعذر السفر والمرض فقضاؤه على التراخي ما لم يدخل رمضان السنة القابلة.."اهـ

قال في روضة الطالبين [باب صوم التطوع 2/386]: ".. وهذا كله مبني على المذهب، وهو انقسام القضاء إلى واجب على الفور، وعلى التراخي، فالأول: ما تعدى فيه بالإفطار، فيحرم تأخير قضائه، قال في التهذيب: حتى يحرم عليه التأخير بعذر السفر. وأما الثاني: فما لم يتعد به، كالفطر بالحيض والسفر والمرض، فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة المقبلة، وقال بعض أصحابنا العراقيين: القضاء على التراخي في المتعدي وغيره."اهـ

وفي تحفة المحتاج بشرح المنهاج لشيخ متأخري الشافعية وعمدتهم ابن حجر الهيتمي [8/331-332]: "(ويمنعها) إن شاء (صوم) أو نحو صلاة أو اعتكاف (نفل) ابتداء وانتهاء ولو قبل الغروب؛ لأن حقه مقدم عليه لوجوبه عليها، وإن لم يرد التمتع بها على الأوجه؛ لأنه قد يطرأ له إرادته فيجدها صائمة فيتضرر (فإن أبت) وصامت أو أتمت غير نحو عرفة وعاشوراء أو صلت غير راتبة (فناشزة في الأظهر) فتسقط جميع مؤن ما صامته لامتناعها من التمكين الواجب عليها، ولا نظر إلى تمكنه من وطئها ولو مع الصوم؛ لأنه قد يهاب إفساد العبادة فيتضرر، ومن ثم حرم صومها نفلا أو فرضا موسعا وهو حاضر من غير إذنه أو علم رضاه.."اهـ

وكذا قريبا منه في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لحجة المتأخرين العلامة الرملي [7/209] ما نصه: "(ويمنعها) إن شاء (صوم) أو نحو صلاة أو اعتكاف (نفل) ابتداء وانتهاء ولو قبل الغروب؛ لأن حقه مقدم عليه لوجوبه عليها، وإن لم يرد تمتعه بها فيما يظهر؛ لأنه قد تطرأ له إرادته فيجدها صائمة فيتضرر (فإن أبت) وصامت أو أتمت غير نحو عرفة وعاشوراء أو صلت غير راتبة (فناشزة في الأظهر) فتسقط مؤن جميع مدة صومها لامتناعها مما وجب عليها من التمكين، ولا نظر إلى تمكنه من وطئها ولو مع الصوم؛ لأنه قد يهاب إفساد العبادة، ومن ثم حرم صومها نفلا أو فرضا موسعا وهو حاضر بغير إذنه أو علم رضاه.."اهـ

وفي مغني المحتاج للخطيب الشربيني [فصل في موانع النفقة 3/439]: "(ويمنعها) أي يجوز لزوجها منعها من (صوم نفل) مطلق، سَوَاءٌ أمكنه جماعها أو امتنع عليه لعذر حسِّيٍّ كَجَبِّهِ أَوْ رَتَقِهَا، أو شَرْعِيٍّ اكتسبه بواجب كَصَوْمٍ وَإِحْرَامٍ ، وبحث الأذْرَعِي أنَّهُ لا يَمْنَعُ مَنْ لا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا كَمُتَحَيِّرَةٍ وَمَنْ لا تحتمل الوطء مردود؛ لأنَّ حَقَّهُ واجب عليها وله قطعه أيضا إذا شرعت فيه (فإن أبت) أي امتنعت من الفطر بعد أمره لها بِه (فناشزة في الأظهر) وفي الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ: الأصَحُّ لامتناعها من التمكين وإعراضها عنه بما ليس بواجب وصومها في هذه الحالة حَرَامٌ كما في زوائد الرَّوْضَةِ في صوم التطوع، وحكى في المجموع هناك وجهين: أصحهما هذا، والثَّاني: أنه مَكْرُوهٌ. قال: فلو صامت فمقتضى المذهب في نظائره الجزم بعدم الثواب وإن كان صحيحا كما سبق في الصلاة في الدار المغصوبة فكذا هنا، والثاني: أنها لا تكون ناشزة؛ لأنها في قبضته وله إخراجها منه متى شاء، أما النفل الراتب كَعَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ، فليس له منعها منه على الصحيح، ولا تسقط نَفَقَتُهَا بالامتناعِ مِنْ فطره فهو كرواتب الصَّلاةِ... (والأصَحُّ أَنَّ قَضَاءَهُ) مِنْ صومٍ أو صلاةٍ (لا يَتَضَيَّقُ) بأنْ لم يجب فَورًا كفطرها بعذر في رمضان والوقتُ مُتَّسِعٌ أو نامت عن الصلاة حتى خرج وقتها حُكْمُهُ (كَنَفْلٍ فَيَمْنَعُهَا) أي فيجُوزُ له منعها منه ومن إتمامِهِ؛ لأنه على التراخي وحقه على الفور، والثاني: أنه ليس كالنفل فلا يمنعها منه، وبالأول قطع الأكثرون كما في الروضة، فكان الأولى التعبير بالمذهب، أما ما يتضَيَّقُ كالفطر تَعَدِّيًا أو بِعُذرٍ ولم يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إلا قَدْرُهُ أو أخرت الصَّلاةَ عن وقتها بلا عذر فليس له المنع منه والنفقة فيه واجبة على الأصَحِّ في الروضة، وإن أشعر كلامُ الرَّافِعِيِّ بترجيح السقوط..."اهـ

والنصوص المؤيدة لما ذهبنا إليه أولا -من أن حق الزوج مقدم على قضائها ما فاتها من رمضان بعذر بالتفصيل المذكور أولا في الجواب كما هو مذهب السادة الشافعية- كثيرة، وفيما ذكرناه منها كفاية، فإن توسعنا في المذاهب الأربعة المعتبرة فسنجد أن السادة الحنابلة يكادون يوافقون الشافعية في هذه المسألة، ففي الشرح الكبير لابن قدامة الحنبلي [9/262] ما نصه: "(مسألة): (وإن أحرمت بمنذور معين في وقته فعلى وجهين) أحدهما: لها النفقة، ذكره القاضي؛ لأن أحمد نص على أنه ليس له منعها، والثاني: أنه إن كان نذرها قبل النكاح أو كان النذر بإذنه لم تسقط نفقتها لأنه كان واجبا عليها بحق سابق على نكاحه أو واجب أذن في سببه، وإن كان النذر في نكاحه بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت عليه حقه من الاستمتاع باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه، وإن كان النذر مطلقا أو كان صوم كفارة فصامت بإذنه فلها النفقة لأنها أدت الواجب بإذنه فأشبه ما لو صامت المعين بإذنه في وقته، وإن صامت بغير إذنه فقال القاضي: لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي، وحق الزوج على الفور وإن كان قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك، وإن كان وقته مضيقا مثل إن قرب رمضان آخر فعليه نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان.."اهـ

ومثله في المغني [18/ 205]: "وإن صامت بغير إذنه فقال القاضي: لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي، وحق الزوج على الفور وإن كان قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك، وإن كان وقته مضيقا مثل إن قرب رمضان آخر فعليه نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان.."اهـ

فهذا مذهب الحنابلة مؤيد لما ذهب إليه الشافعية، أما السادة الأحناف والسادة المالكية، فهم وإن كانوا لا يرون حرمة صوم المرأة من دون إذن زوجها قضاء رمضان، وعليه فليست بناشز إن صامت من غير إذنه أو لم تفسد صومها إن أمرها، إلا أنهم اختلفوا: هل قضاء رمضان عليها -وعلى الرجل المعذور- على الفور أم على التراخي؟ والذي يظهر مما رجحوه أنه على التراخي، وعليه فلا بأس إن أخرت المرأة قضاء رمضان إن رأت ذلك أو عجلته إن رأت ذلك وهو المستحب عندهم كما يظهر، لكن ترجيحهم أن قضاء رمضان هو على التراخي لا على الفور لا يبعد أن يستخلص منه استحباب تأخير القضاء إن رأت في تأخيره مصلحة كما في قضاء حق الزوج فيكون على قواعدهم تعجيل قضاء رمضان مستحبا إلا إن رأت أن تقدم حق زوجها، فتقديم حق الزوج عندهم غير ملزم وإن أشعر كلامهم باستحبابه، بخلافه عند الشافعية والحنابلة؛ إذ حق الزوج واجب تقديمه لأنه على الفور والقضاء على التراخي، على أنه يوجد من علمائهم من أفتى أن قضاءها يجب أن يكون على الفور، وهو قول مرجوح عندهم، والمرجوح كما لا يخفى لا يفتى به.

قال في حاشية رد المحتار من فقه الحنفية [2/473]: "قوله: (ولا تصوم المرأة نفلا الخ) أي يكره لها ذلك كما في السراج. والظاهر أن لها الإفطار بعد الشروع رفعا للمعصية فهو عذر، وبه تظهر مناسبة هذه المسائل هنا تأمل، وأطلق النفل فشمل ما أصله نفل ولكن وجب بعارض، ولذا قال في البحر عن القنية: للزوج أن يمنع زوجته عن كل ما كان الإيجاب من جهتها كالتطوع والنذر واليمين دون ما كان من جهته تعالى كقضاء رمضان، وكذا العبد إلا إذا ظاهر من امرأته لا يمنعه من كفـارة الظهـار بالصـوم لتعلق حق المرأة به. اهـ" انتهى.

ومثله في رد المحتار [8/18+19]: "ولذا قال في البحر عن القنية: للزوج أن يمنع زوجته عن كل ما كان الإيجاب من جهتها كالتطوع والنذر واليمين دون ما كان من جهته تعالى كقضاء رمضان، وكذا العبد إلا إذا ظاهر من امرأته لا يمنعه من كفارة الظهار بالصوم لتعلق حق المرأة به."اهـ

وفيه أيضا [5/339]: "وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ مِنْ الصَّوْمِ : أَنَّ قَضَاءَ الصَّوْمِ عَلَى التَّرَاخِي، وَقَضَاءَ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ إلَّا لِعُذْرٍ .ا هـ" انتهى.

هذا فيما يتعلق بمذهب السادة الأحناف، وأما مذهب السادة المالكية ففي الشرح الصغير [1/242] للشيخ الدردير قال: "(و) ندب لمن عليه شيء من رمضان (تعجيل القضاء ..) .." اهـ

وفيه أيضا [1/254]: "(وليس لامرأة يحتاج لها) أي لجماعها (زوجها) أو سيدها (تطوع) بصوم أو حج أو عمرة (أو نذر) لشيء من ذلك (بلا إذن) من زوجها أو سيدها (وله) أي للزوج إذا تطوعت بلا إذن (إفساده بجماع) لا بأكل أو شرب (لا إن أذن) لها فليس له ذلك.."اهـ

وفي مواهب الجليل شرح مختصر خليل [6/442] ما نصه: "ص (وَلَيْسَ لامْرَأَةٍ يَحْتَاجُ لَهَا زَوْجٌ تَطَوُّعٌ بِلا إذْنٍ) ش: ظَاهِرُ كَلامِهِ أَنَّ غَيْرَ التَّطَوُّعِ لا تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِئْذَانِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا أَوْجَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ فِدْيَةٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ التَّطَوُّعِ بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْأَمَةِ الَّتِي لِلْوَطْءِ كَالزَّوْجَةِ.."اهـ

وفي مواهب الجليل أيضا [6/430]: "(تَنْبِيهٌ) وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لا يَجِبُ قَضَاءُ رَمَضَانَ عَلَى الْفَوْرِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى شَعْبَانَ وَيَحْرُمُ بَعْدَهُ وَقِيلَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ. نَقَلَ الْقَوْلَيْنِ الرَّجْرَاجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: لا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَحَصَّلَ ابْنُ عَرَفَةَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، الأوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لِبَقَاءِ قَدْرِهِ قَبْلَ تَالِيهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فَإِنْ صَحَّ بَعْدَ رَمَضَانَ قَدْرَ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ وَاتَّصَلَ ذَلِكَ إلَى رَمَضَانَ الثَّانِي فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَبْقَى قَدْرُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَيَّامِ مِنْ شَعْبَانَ مُطْلَقًا، وَاعْتُرِضَ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ فِي حِكَايَتِهِ الاتِّفَاقَ، وَقَالَ فِي الْإِكْمَالِ فِي شَرْحِ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إلا فِي شَعْبَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ خِلافًا لِلدَّاوُدِيِّ فِي إيجَابِهِ مِنْ ثَانِي شَوَّالٍ وَأَنَّهُ آثِمٌ مَتَى لَمْ يُتِمَّهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ فَوَقْتُهُ مُوَسَّعٌ مُقَيَّدٌ بِبَقِيَّةِ السَّنَةِ مَا لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ آخَرُ لَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ الْمُبَادَرَةُ.. انْتَهَى"اهـ.

وفي حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني [باب في الصيام 3/391]: "وَظَاهِرُ كَلامِهِ أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ عَلَى التَّرَاخِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَنْ مَالِكٍ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى الأوَّلِ: إنَّمَا يُرَاعَى تَفْرِيطُهُ فِي شَعْبَانَ إذَا كَانَ فِيهِ صَحِيحًا مُقِيمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الإطْعَامُ، وَإِنْ مَرِضَ فِيهِ أَوْ سَافَرَ فَلا إطْعَامَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الثَّانِي: إنَّمَا يُرَاعَى تَفْرِيطُهُ فِي شَوَّالٍ فَإِنْ لَمْ يَمْرَضْ فِيهِ وَلا سَافَرَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإطْعَامُ...وَفِي ج: لا يَجِبُ قَضَاءُ رَمَضَانَ عَلَى الْفَوْرِ بِاتِّفَاقٍ عِنْدَ ابْنِ بَشِيرٍ. وَقَالَ ق: يَجِبُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ التَّتَابُعُ وَالْفَوْرُ وَلَوْ كَانَ رَمَضَانُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَصَامَ شَهْرًا قَضَاءً عَنْهُ فَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَّلَ ثَلَاثِينَ، وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ وَلا يَقْضِي فِي الْأَيَّامِ الْمَمْنُوعِ فِيهَا الصَّوْمُ انْتَهَى".

وفي حاشية العدوي أيضا [3/394]: "((قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ)) أَيْ فَإِنَّهَا قَالَتْ: (إنْ كَانَ لَيَكُونَ عَلَيَّ الصِّيَامُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصُومَهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). فَظَاهِرُهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ شَعْبَانَ لأخَّرْته وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرْته، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُوَسَّعًا"اهـ.

والخلاصة: أن الشافعية والحنابلة رأوا أن حق الزوج مقدم فتأثم إن قضت دون رضاه مع اتساع الوقت، وأما الأحناف والمالكية فقد رأوا في الراجح من مذهبهم- أن وقت قضاء رمضان موسع لها إلا أن يضيق الوقت عليها فيجب عليها القضاء على الفور، ثم رأوا أن لها أن تقضي ما عليها من رمضان من دون إذن زوجها ولا تكون بذلك آثمة أو ناشزة لأن ذلك فرضها ويستحب لها تعجيله.

ولست مرجحا بين الأئمة أو خائضا بحرا لا أدركه، غير أني أنقل للسائل الراجح من مذهبي ومذهبه، مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وعليه فلا يحق له أن ينتقل عنه إلى غيره بهواه ومزاجه بل بفتوى مفت على تفصيل ليس هنا محل بسطه، وقد قالوا: إن مذهب السائل مذهب مَنْ يفتيه، فإن كان له مذهب كما وحال السائل المعترض هنا فإنه يجب عليه التقيد بمذهبه.

وما نقلته هنا من مذاهب الأئمة ليس للتخيير أو لعرضه على الهوى والأهواء! وإنما إطلاع العامة مذاهب الأئمة وخلافهم، فلا ينكر شافعي على مالكي، ولا حنفي على حنبلي، فكلهم من رسول الله آخذ، وعلى نهجه سائر، على أنهم في مسألتنا هذه شبه متفقين على أن قضاء رمضان على التراخي، فلا إنكار منهم على من أخر قضاء زوجه كما فعله السائل معي، وأما جعل القضاء في مسألتنا على الفور فقول مرجوح كما أسلفنا.

نصيحة:

وهنا أقف هنيهة قبل أن أختم لأهمس في أذن من أُحِبُّ بنصيحة أحسب أني مخلص فيها لأقول له:

إن الفتوى أمرها عظيم، وحبها داء قديم، عرف السلف مقدار حرمتها فاجتنبوها بكل ما أوتوا من قوة، هذا مع علمهم ووفور عقلهم وديانتهم وحلمهم! حتى قال قائلهم فيها: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى!

وقد نقل الحافظ ابن الصلاح في مقدمة كتابه (أدب الفتوى) شيئا من آثار السلف في تجنبهم للفتوى ومعرفتهم مكانتها تحت عنوان (بيان شرف حرمة الفتوى وخطرها وغررها) أدعو كل طالب علم أن يمعن النظر فيه ليتبصر حال السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم!

نعم، لقد ختم ابن الصلاح هذا الباب بقصة ربيعة بن أبي عبدالرحمن حين دخل عليه رجل فرآه يبكي! فأخذ يسأله عن سبب بكائه، أَلِمُصيبة؟ فرد عليه ربيعة قائلا: "لا، ولكنِ اسْتُفْتِيَ من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم. قال ربيعة: ولَبَعَضُ من يفتي ها هنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق!"..

ثم علق ابن الصلاح قائلا: "رحم الله ربيعة، كيف لو أدرك زماننا؟ وما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل!!"اهـ

هكذا يتألم هذا الإمام الكبير مع ما في عصره من أئمة عظام ملؤوا الدنيا بعلومهم! وليت شعري! ماذا سيقول لو أدرك عصرنا هذا؟! أظنه سيدعو على نفسه بالموت حتى لا يرى هذا التلاعب بالدين!! أو كان سيتمنى لو لم تلده أمه!!

إي والله، إننا اليوم ابتلينا بالمتجرئين على الفتيا أيما تجرؤ! حتى صار الناس يهابون الدخول فيما لا يعنيهم إلا الفتيا في الدين! فهي أسهل شيء يلاك في الأفواه وتُتَمْتِمُ بها الألسنة ويخوض فيها المجازفون المتهورون!

وإذا كان السلف يتورعون عن الفتيا مع وفور علمهم وتقواهم فإن من يتجرأ اليوم على الفتيا قَلَّ أن يكون له علم أو تقوى! أما مَنْ يجمعُ بين الاثنين فأظنه يكاد يفقد أو ما تراه يوجد!! وهل يوجد اليوم علماء؟!

وهذا لعمري ما جعل عوام الناس أنفسهم يتجرؤون؛ مستبيحين حمى الشريعة بسبب أغرار ينهقون بلا علم، ويزعقون بلا أدب ولا فهم! رافعين شعار الفتيا باسم الاجتهاد في الكتاب والسنة! فإن سألت أحدهم عن إعراب آية أو مسألة دقيقة في البيوع أو ما شابه ذلك أخذ يخبط فيها خبط عشواء!! متقلبا متلكئا تقطَّعت به سُبُلُهُ كمن به حمى وداء!! وليت شعري مَن غرَّهم مَن غرَّهم؟!

ثم مالي وللفتيا، ألا إنما أنا ناقل، وما أنا وأمثالي ممن ينتسبون إلى العلم اليوم لولا أنه عليهم واجب إظهار شريعة الله وتبيينها للناس وعدم تعطيلها كما هو صريح قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} لكان حقا عليهم محتما السكوت وملازمة البيوت! أما وقد وجب فلا بد إذن علينا من خوض الحِمى وإن كنا له كارهين! ألا ليس كل خائض سباح، وليس كل سباح ماهر، وليس كل ماهر مُوَفَّق!

نعم، هي همسة أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل لها أثرا في قلبِ سامعٍ ونفسِهِ، فإن صلاح الأمة بصلاح النفوس، وفسادها بفسادها، وإن أكبر شيء أفسدها أن استقلَّ أهل الإسلام تشريع ربهم واستهانوا به، فلو أنهم رجعوا إلى الأسلاف! فلا يُصلِحُ الآخرين إلا ما أَصْلَحَ الأولين، أئمة الدين أصحاب المذاهب الأربعة المعتبرين، فلنكن على هداهم سائرين، والله من وراء القصد، نسأله الهداية والرشد، آمين..

وصلى الله على نبينا محمد المبعوث رحمة والمعروف في كل أمة

وآله وصحبه ذوي الهدى ومن بهداهم اقتدى

كتبه المفتقر إلى عفو المنان: أيوب بن عيسى بن رشدان الشافعي الأزهري

تم الفراغ منه صبيحة الثلاثاء

10/10/1430هـ الموافق 29/9/2009م 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق