القَولُ
المُبِين
فِي
تَفسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدِ
اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى
عِلْمٍ
عَلَى العَالَمِينَ}
تأليف
أيوب بن رشدان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله منزل الكتاب
على عبده بأفصح مقال وأحسن تبيين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين المكين،
وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد...
فهذا جوابنا عن سؤالكم
المتعلق بقوله تعالى في سورة الدخان (آية 32) {ولقد اخترناهم على علم على
العالمين}، فقد سألتم عن معنى {على علم على العالمين}، وهل المعنى راجع إلى المولى
أم إلى بني إسرائيل، فأقول وبه التوفيق وعليه التكلان:
إن في الآية مبحثين:
المبحث الأول: متعلق
بقوله تعالى: {على علم على العالمين}، وبيانه أن في معنى الآية أوجها:
أولها: أن يكون معنى
الآية: اخترناهم حالة كوننا عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم.
ثانيها: أن يكون معنى
الآية: اخترناهم حالة كوننا عالمين أنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض
الأحوال.
ثالثها: أن يكون معنى الآية:
اخترناهم حالة كونهم هم -أي بني إسرائيل- عالمين وممتازين عن جميع الخلق بعلمهم.
فعلى المعنى الأول
والثاني يكون فاعل المصدر -الذي هو (العلم)- هو الله تعالى، وعلى المعنى الثالث
يكون بني إسرائيل، غير أنه في المعنى الأول علل اختياره لهم لكونهم مستحقين ذلك،
بينما في المعنى الثاني لم يفصح لم اختارهم وإن كان يعلم مآلهم المخزي من كفران
نعمه.
فإن قيل: ألا ترى أن في
المعنيين تعارضا؟! إذ كيف يكون على المعنى الأول أنه اختارهم لكونهم مستحقين
للاختيار من كونهم سيرجحون على غيرهم باستحقاقهم ذلك الاختيار بينما في المعنى
الثاني اختارهم مع علمه بأنهم يزيغون ويضلون مستقبلا؟! أفلا ينبغي أن يكون علمه
بمآلهم من الضلال وكفران النعمة سببا لعدم اختيارهم؟! وإذا كان اختيارهم لحكمة
خفية مع علمه بما سيؤول إليه حالهم من ضلال فكيف يكون في المعنى الأول أنه اختارهم
لكونهم مستحقين، وفي المعنى الثالث من كونهم امتازوا على غيرهم كونهم عالمين
فاختارهم مع أنهم قد ضلوا بعد ذلك على علمهم؟
أقول: لا تعارض إن شاء
الله، والجمع يكون بأحد وجهين: إما بترجيح أحد الأقوال عند المفسرين أو بالجمع،
والثاني أفضل، وغايته أن يقال: إن الله قد اختارهم حينما اختارهم لكونهم مستحقين
للاختيار على غيرهم من قبل الله بسبب امتيازهم بعلمهم وفضلهم أو كانوا مرجحين
بترجيح الله لوصف آخر استحقوا به الترجيح، فلما زال عنهم وصف الاستحقاق بعد
كفرانهم وضلالهم زال عنهم هذا الاستحقاق في الاختيار، ثم إن اختياره لهم قبل
ضلالهم وسلبه هذا الاختيار بعد ضلالهم لا يعني أنه لم يكن عالما بما سيكونون عليه
من قبل ومن بعد، بل هو عالم بما ستجري عليه الأمور قبل جريانها سبحانه، وعالم
بأنهم سيضلون بعد اختياره لهم ومع هذا قد اختارهم.
فالمعنى الأول يدلك على
سبب اختيار الله لهم، والمعنى الثاني يوضح لك أنه وإن كان اختارهم لوصفهم الذي هو
سبب الاختيار فلا يعني أنه غير عارف بمآلهم من زوال هذا الوصف الذي به استحقوا
الاختيار فهو علام الغيوب سبحانه ومع ذلك اختارهم، والمعنى الثالث يبين أن اختياره
لهم كان مخصصا بكونهم امتازوا على العالمين بعلمهم، فكأنه يركز على سبب التفضيل
فيحثك على الالتزام به، فمتى ما زال عنهم هذا الوصف لم يستحقوا التفضيل والاختيار،
وهذا ما ستعرفه في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: متعلق
بالآية ككل؛ فظاهرها يفهم منه أنهم أفضـل من كل العالمين وهـذا
معـارض لأفضليـة هذه الأمـة
بالأدلة القاطعة؟
وجوابه: أن هذا عام
دخله التخصيص كما نص عليه الإمام الرازي في تفسيره، ومخصصه هو أنهم ماداموا في شكر
النعمة فإن الأفضلية لهم، أما وقد كفروا فلا فضل، كقوله تعالى: {كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} فلو أنهم لم يتقيدوا
بهذه الشروط لانتفت عنهم الأفضلية.
وجواب آخر نقله الحافظ
ابن كثير في تفسيره [4/154] عن قتادة أنه قال: "اختيروا على أهل زمانهم
ذلك" اهـ، فيكون التخصيص بذاك الوقت، ثم قال الحافظ: "وكان يقال: إن لكل
زمان عالما، وهذا كقوله عز وجل لمريم عليها السلام: {واصطفاك على نساء العالمين}
أي في زمنها، فإن خديجة رضي الله عنها أفضل منها أو مساوية لها في الفضل، وكذا
آسية امرأة فرعون، وفضل عائشة رضي الله عنهـا على النسـاء
كفضل الثريد على سائر
الطعام" اهـ
أقول: ولا يخفى فضل
فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا كله مخصص لأفضليتهم –أعني بني إسرائيل- إما في
ذاك الزمان أو بوصف معين، وقد علمت في المبحث الأول أنه متى ما زال ذاك الوصف عنهم
لم يكونوا مستحقين للاختيار ولا للأفضلية، فيبقى إطلاق الاختيار مقيدا، والله أعلم.
قال الآلوسي في تفسيره
[25/125-126] مقررا ما سبق: "فالتعريف للعهد أو الاستغراق العرفي فلا يلزم
تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس على
الإطلاق، وجوز أن يكون للاستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة الأنبياء عليهم
السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، وقيل:
المراد اخترناهـم للإيحـاء على الوجـه الـذي
وقع وخصصناهم به دون
العالمين، وليس بشئ..."اهـ.
والذي يعنيه الإمام
بالعهد والاستغراق إنما هو في معنى التعريف المتضمن في الألف واللام من قوله:
(العالمين)، فهو إما على العهد أي ما يعهد في الذهن من أن لهم الأفضلية على عالمي
ذاك الزمان، وإما أن يكون على الاستغراق ويعني شمول أفضليتهم وعدم تحديدها، غير أن
الشمول هذا إما أن يكون عرفيا فيكون تفضيلهم بما تعارف عليه الناس في ذاك الزمان
فيكون تفضيلهم على العالمين من أهل ذاك الزمان في ذاك الزمان أيضا لأن هذا
المتعارف عليه وهذا ما يسمى بالاستغراق العرفي، وحقيقته أنه من باب إطلاق العموم
للتغليب لا على وجه الحقيقة. وإما أن يكون الشمول حقيقيا في كل زمن وهو المسمى
بالاستغراق الحقيقي، وهذا المعنى محدد أيضا بامتيازهم على غيرهم من الأمم بكثرة
الأنبياء والرسل، لا الأفضلية المطلقة، إذ التفضيل المطلق لأمة الحبيب محمد صلى
الله عليه وآله وسلم في كل زمان ومكان، فلا تعارض حينها بين أفضلية هذه الأمة
وأفضلية بني إسرائيل، والله أعلم.
ومن باب الفائدة أختم
بما ذكره الإمام النحوي أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [8/38] حيث
يقول: "{ولقد اخترناهم} أي اصطفيناهم وشرفناهم، {على علم} علم مصدر لم يذكر
فاعله، فقيل: على علم منهم، وفضل فيهم، فاخترناهم للنبوات والرسالات. وقيل: على
علم منا، أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا. وقيل: على علم منا بما
يصدر من العدل والعلم والإيمان بأنهم يزيفون وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال.
وقيل: اخترناهم بهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم وخصصناهم بذلك دون
العالم. {على العالمين} أي عالمي زمانهم، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مفضلة
عليهم. وقيل: على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم، وخاص بهم ليس لغيرهم، وكان
الاختيار لهذه الجهة لأن أمة محمد أفضل..." اهـ
أكتفي بهذا إذ في
الإطالة ملالة، وفي الهذرة جهالة، والحمد لله على نعمه أبد الآبدين، والصلاة
والسلام على أشرف خلقه أجمعين، سيدنا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام.
۞۞۞
كتبه الفقير إلى رحمة
ربه الرحمن
أيوب بن عيسى بن رشدان
يوم الأحد 12 / ربيع
الآخر / 1428هـ
الموافق 29 / 4 / 2007م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق