بين السبحة والنصف من شعبان أخذ خطيب جمعتنا يصيح بصوته لنترك البدع ونلتزم بالسنة!
خطيبنا الذي بدأ خطبته بوجوب اتباع السنة، مدللاً على
ذلك باتباع السلف لنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم في كل شيء حتى في أخص الأمور!
يضرب لنا مثلاً يريد أن يصل من خلاله -كما يقال- إلى ضرب عصفورين بحجر، أولاً:
تعليم الناس اتباع المنهج الصحيح المتمثل باتباع القرآن والسنة الصحيحة على فهم
خطيبنا، وثانياً: تحطيم السبحة وقص خيطها وتفريق المجتمعين للذكر والتنبيه إلى
بدعية تخصيص ليلة النصف من شعبان ويومها بأي نوع من الطاعات!
وإني لأعجب من هؤلاء الخطباء الذين اتخذوا خطب الجمعة
منبراً لفتاواهم الشاذة بينما جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنبر تذكيراً
للناس بأمور دينهم ليتقربوا إلى ربهم في هذا اليوم المبارك، لا ليخرجوا وقد
افتتنوا في أمور دينهم أو ماتوا غيظاً من خطيبهم!
بل ويزداد عجبي من إدارة الأوقاف التي لا تدري عن هؤلاء
الخطباء الذين يتخذون منبر الجمعة مكاناً مقدساً لبث أفكارهم المغلوطة باسم اتباع
السنة! وتجد المشهد يتكرر كل جمعة تقريباً وإدارة الأوقاف في سبات عميق!
خطيبنا يستدل على بدعية التسبيح بغير اليد -وهو هنا يعني
السبحة قطعاً، لكنه لم يصرح!- بأنه شيء لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بل ولم يفعله الصحابة الكرام! ويستدل على ذلك بأثر ابن مسعود الطويل الذي
رواه الدارمي وخلاصته أنه مر على أناس يتحلقون في المسجد يذكرون الله بحصى عندهم،
فأنكر ابن مسعود عليهم وعنفهم لأن هذا من الابتداع في الدين! بل ويعقب خطيبنا على
هذا الأثر بقول الراوي عن ابن مسعود أنه رأى أكثرهم أصبحوا ممن قتل في النهروان مع
الحرورية الخوارج!
بعد كل هذا المشهد الذي ينقله لنا الخطيب بالدليل الصحيح
عنده يحس المرء ممن يحمل في جيبه سبحة أنه سيصبح عما قريب مقتولاً مع الحرورية
الخوارج! ولكن من المفارقات أن من أول ما رأيته بعد فراغنا من الصلاة شاباً يحمل
في يده سبحة! وكأني بالشاب قد تجاهل وصاية الخطيب له -بعد كل الأدلة التي ذكرها-
حين أوصى آخر صياحه بقول الله تعالى: "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها"!
يا خطيبنا المحترم، ليس الأمر كما ذكرت، بل السبحة سنة
تقريرية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد ثبتت مشروعيتها بالأدلة
والآثار، بل وألفت فيها مؤلفات عدة، وممن ألف فيها الحافظ الإمام السيوطي الذي ألف
رسالة بعنوان "المنحة في السبحة" ملأها بالأحاديث والآثار عن كثير من
الصحابة الأخيار، فدعني أشنف أذنك ببعض ممن نقل عنه السيوطي التسبيح بالسبحة، وهم
أبو صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبو
الدرداء، وأبو سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم، تعرف آثارهم في كتاب السيوطي
هذا، حتى قال السيوطي بعد عَدِّه لمن نقل عنه الأخذ بالسبحة: "ولم ينقل عن
أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدونه
بها ولا يرون ذلك مكروهاً.."اهـ
فجميع هؤلاء يتخذون السبحة آلةً معتبرة في الذكر! ولا
أدري ما حكمهم في نظر خطيبنا!
أما أثر ابن مسعود الذي يستدل به خطيبنا ففي إسناده من
ليس بمرضيٍّ كعمرو بن يحيى، أي فالحديث ضعيف وخطيبنا يستدل به علينا ويبني عليه
أحكاماً كبيرةً من باب البدع والضلالة!
الغريب يا خطيبنا أن تأخذ بالضعيف من الحديث وتترك
الحديث الحسن الذي أورده أبو داود -وغيره- في سننه تحت [باب التسبيح بالحصى] إذ
روى بإسناد يرفعه إلى سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: "أخبرك بما هو أيسر عليك
من هذا أو أفضل فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء...الحديث".
فانظر يا خطيبنا كيف أن رسولنا الكريم لم يعنف هذه
المرأة ولم يعتبر ما فعلته من البدع، بل دلها على فعل ما هو أيسر لها لا من حيث
الآلة بل من حيث نوع الذكر وعدده، فعلمها صيغةً تكفيها المدة الطويلة التي قضتها في
الذكر كما بينته روايات أخرى.
ثم ليس الاجتماع للذكر في المسجد ببعيد عن حكم السبحة
أيضاً وقد ورد فيه الحديث المشهور الصحيح
من رواية مسلم وفيه: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة..
الحديث"، وكذا الحديث المشهور الصحيح وهو في مسلم أيضاً وفيه أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟"
قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا، قال:
"آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟" قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك؟، قال:
"أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم
الملائكة".
أفبعد كل هذا تكون السبحة بدعة؟! ويكون الاجتماع للذكر
بدعة؟!
ومن السبحة ينتقل خطيبنا إلى ليلة النصف من شعبان التي
يعترف بورود حديث حسن في فضلها! لكنه يرى أن تخصيصها بذكر أو عبادة لم يرد! معللاً
منعه ذلك بأن الذي ورد في فضلها أن الله يطلع فقط على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر
لكل أحد إلا لمشرك أو مشاحن كما ورد به الحديث! موهماً -بكل برود- أن كون الله
سيطلع لا يعني أنه يطلب منا عبادةً معينةً، فعمل عبادة معينة حينها من البدع التي
لم ترد! ونسي أن رسولنا الكريم قد أجاب حين سُئِلَ عن صيام يوم الإثنين والخميس
فأجاب معللاً صيامه لهما بأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال "فأحب أن يعرض عملي
وأنا صائم"، فهنا رسولنا الكريم يؤصل لمسألة وهي أنه يستحب حين يطلع الله
عليك وعلى أعمالك أن تكون في أحسن حال، ولما لم يخلقنا الله ليأخذ منا مالاً ولا
رزقاً وإنما خلقنا لنسلم له أمرنا كله بالعبادة والإذعان كما قال: "وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون" كان أفضل ما نقدمه له وهو يطلع على حالنا أن نكون
قائمين بعبادته سواء بالذكر أو الصلاة أو قراءة القرآن أو الصيام أو غيرها من سائر
العبادات والقربات، فلا أدري كيف تكون الطاعة في ليلة يطلع فيها علينا ربنا من البدع
والضلالات!
وقريب من خطيبنا هذا خطيب آخر ببلدتنا بلغنا عنه أنه
صرح ببدعية النصف من شعبان على المذاهب الأربعة! ولكنه اعترف أنه غير متأكد من
الحكم فقال: "حسب علمي"! ولا نعلم لماذا يصرح بأحكام هو غير متأكد
منها؟!
وفي كل الأحوال إذا أردنا أن نهول الموضوع على طريقة
خطيبنا ونهجه فإن أقصى ما قد يقال أن هذه المسائل خلافية، لكن أن تكون مثل هذه
المسائل من الضلالات التي سنقتل بسببها يوماً ما مع الحرورية الخوارج فهذا هو
الغلو بعينه والتشدد المقيت المنهي عنه! فمن يحاسب هؤلاء الخطباء؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق