الأربعاء، 17 نوفمبر 2021

إِتحَافُ ذَوِي الذَّكَا فِي جَوَابِ أَهلِ سِرِيلَانكَا

 إِتحَافُ ذَوِي الذَّكَا

فِي

جَوَابِ أَهلِ سِرِيلَانكَا


 

كتبه:

أيوب بن رشدان

  


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أمات وأحيا وأضحك وأبكا، والصلاة والسلام على من بعث ببكة سيدا مباركا، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أولي الإيمان والذكا، وبعد.. فذا جواب ما وردني على لسان المعتني المحترم فضيلة الشيخ أبي الحسن محمد أكرم من سؤال أهل بلده في سريلانكا عما يتعلق من مسايل تعلقت بالوباء المسمى بـ(كوفيد 19) تسعة عشر، والمعروف بين الناس بـ(كورونا) وقد عم الأرض وظهر وانتشر واشتهر، وأرعب القاصي والداني والكبير والصغير من البشر، حتى اتخذت الحُكام في بلدانها أحكاما ألزمت الناس بها درءا للمفاسد الناتجة عن هذا الداء الخطير، والذي صارت أخباره في البلدان رائجة حتى مات بسببه الجم الغفير، وقد أتى السؤال شارحا للحال في بلاد سيريلانكا حيث اتخذت الحكومة في تلك البلاد بعض الاحترازات في مواجهة الداء المذكور وألزمت بها الناس! دون مراعات لدياناتهم فضلا عن مذاهبهم أو مراعاة عرف أو أساس! فصار الناس على تخوف من المضي في هذه الأوامر، مما يعرضهم لمخالفة الحاكم الآمر! أو يعرضهم لمخالفة الدين! ومنهج سيد المرسلين؛ فجاء سؤالهم عن حكم تطبيق هذه القرارات وما يتبع ذلك من تفريعات، ظانين في هذا العبد الضعيف أنه أهل للسؤال، وفي جوابه دفع الحرج عن كل مشغول البال، بعد أن أغراهم به عالم الأحساء المبارك الشيخ قيس آل المبارك، فشمرتُ عن ساعد الجِدِّ، متكلا على ذي العز والمجد استجابة لقوله: {لتبيننه} ولا بُد، مستحضرا أنه لا ينفع ذا الجَدِّ والجُهدِ منه الجَدُّ والجُهد، وهذا أوان الشروع في المقال ولنذكر أولا نص السؤال ثم نتبعه بجواب شبه مختصر مبين، وبه نستعين وعليه متوكلين..

((نص السؤال الوارد))

"إلى .. [أيوب] .. تحية عطرة وبعد؛

الموضوع: الاستفتاء حول توفير الصناديق الخشبية [التوابيت] لعملية حرق جثث الموتى المسلمين المصابين بجائحة كورونا المستجد، وحول الرماد الباقي بعد عملية الحرق.

فى ظل أزمة كورونا المستجد تسارع الموت فى الناس، وساد الخوف والقلق بينهم، وازدادت نسبة الوفيات على الصعيد العالمي، وقد تسبب ذلك إلى سنّ قوانين جديدة صادرة من السلطات الصحية إقليميا ودوليا لمنع وتخفيف تفشي الوباء الفتّاك.

وتأسيسا على ذلك سعت السلطات الصحية السريلانكية إلى إصدار التعميم الذي يقتضي بضرورة حرق جميع المتوفين بالوباء على الرغم من عدم النظر إلى المبادئ التوجيهية، والمعايير العلمية والطبية التي حددتها منظمة الصحة العالمية.

وتجدر الإشارة إلى أن السلطات الصحية المحلية مصرة على حرق جثث المسلمين بغض النظر عن متطلبات القيادات الدينية والسياسية بالسماح بدفن موتاهم وفقا للشريعة الإسلامية الغراء- لأن الموتى لهم عندنا حرمة كالأحياء- وبناء على قانون حرية المعتقد الذي تضمنه الدستور السريلانكي.

ولا يخفى على أحد أن منظمة الصحة العالمية وافقت على خيارين بالنسبة للمتوفين بكورونا إما الدفن وإما الحرق حسب المبادئ التوجيهية، إلا أن السلطات الصحية السريلانكية عدلت هذا التعميم وألغت خيار الدفن بشكل مفاجئ.

وقد تم حرق عدد كبير من جثث المسلمين على الرغم من [الاحتجاجات] من قِبلهم، مع رفع القضية إلى المحكمة لإعادة النظر فى هذا الشأن، وتعديل القانون رسميا للسماح للمسلمين بدفن موتاهم بدلا من الحرق.

ومن المؤسف غاية الأسف أن السلطات الصحية السريلانكية ما زالت تلزم ذوي الضحايا بتوفير الصناديق الخشبية بنفقاتهم الخاصة، وتحمل كافة نفقات الحرق على أعناقهم لتتم عملية الحرق.

وبناء على المذكور آنفا [نستفتيكم] .... حول القضايا الآتية ذات العلاقة بالحرق القسري:

١- هل يجب على ذوي الضحايا أو على غيرهم من المسلمين القيام بتوفير الصناديق الخشبية بنفقاتهم الخاصة أم يجوز لهم عدم الالتفات إلى هذا الطلب الإلزامي؟

٢- هل يجب دفن الرماد الباقي بعد عملية الحرق، أم يجوز تركه على حاله؟

٣- هل يجب دفنه فى مقابر المسلمين فى حالة وجوب دفنه؟

ولكم منا جزيل الشكر والتقدير، ومن الله المولى حسن الثواب وعظيم الأجر.

أبوالحسن محمد أكرم السريلنكي الجنسية".


((الجواب وبالله التوفيق))

يقول العبد الفقير أيوب بن رشدان حامدا لربه المنان ومصليا على نبيه العدنان ومقرا بعجزه وضعفه وقلة بضاعته وحاجته للغفران، وراجيا العون من مولاه الحنان المنان:

اعلموا رحمني الله وإياكم أن تفصيل كل ما يتعلق بهذا المرض وهل هو وباء كالطاعون وغيره مما وردت النصوص فيهم أصالة فيعامل مثلهم أو هو كَهُم فيعامل قريبا منهم مع فروق في مسائل، وغيره من الفروع المتعلقة به، أمرٌ يطول جدا ليس هنا محل بسطه إذ قد يحتاج تقريره وتأصيله إلى كتاب، إلا أننا نقتصر في الجواب هنا على ما أوردتموه في سؤالكم، وعلى بعض تأصيلات قد يُحتاج إليها نوردها في معرض الجواب.

وأصل الجواب على سؤالكم هو احترام الميت ومعرفة حرمته وما يتعلق بذلك من أحكام منضبطة مقررة وجب استحضارها ابتداء على مذهب ساداتنا الشافعية حتى لا نطيل بالخوض فيها، مكتفين بمعرفة الناس لها لذيوعها واشتهارها، فالأصل أن الميت المسلم محترم عندنا وكذا الكافر غير الحربي ومهدور الدم، وإن من احترام الميت المسلم غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وجوبا كفائيا على من يليه، احتراما له وصونا من السباع ودفعا لأذى رائحته لقريب منه حسب عرف الناس.

فإن تعذر ذلك أو بعضه كما في السؤال الوارد فإنا نصير إلى ما استثنوه إن نصوا عليه أو نُخرج عليه بما يحمل على كلامهم فيما يقرب شبهه ويتزن مدركه ويتساوى حمله وتوجيهه ولو من وجه، شريطة أن يكون هذا الوجه هو محل الاستدلال. وعليه سنجري في جوابنا متحرين الدقة في النقول قدر المستطاع وبذل الجهد في التوجيه بما يفتح الله به علينا وهو المطاع، متوسطين بين الاختصار والاتساع.


 

((السؤال الأول، وتفريعاته، وجوابه))

"هل يجب على ذوي الضحايا أو على غيرهم من المسلمين القيام بتوفير الصناديق الخشبية بنفقاتهم الخاصة أم يجوز لهم عدم الالتفات إلى هذا الطلب الإلزامي؟"

لمعرفة الجواب وجب أولا أن نتطرق لمسائل مع تفهمنا لما ذكرتموه من تمهيد في سؤالكم ووضعه في عين الاعتبار.

وتتمثل هذه المسائل في طرحها كما يلي والجواب عنها بعدُ إجمالا:

(هل كورونا وباء قاتل فاتك؟ وهل الاحترازات المتخذة من قبل حكومة سريلانكا في مواجهة هذا المرض سليمة وقائمة على مباديء صحية صحيحة؟ وإذا كانت كذلك فكيف خالفت الحكومة السريلانكية إذن في قراراتها منظمة الصحة العالمية؟ بل كيف خالفت دستور البلاد؟ وعلى فرض عدم مخالفتها هل يوجد حل آخر غير حرق الجثث في مواجهة انتشاره والحد منه ومع ذلك لم تفعل هذا الخيار الآخر وألزمت المسلمين بحرق جثث موتاهم بما يخالف اعتقادهم؟ ولماذا لا يراعي الحاكم خلاف المعتقدات والأديان؟ وهل تجوز طاعة الحاكم سواء كان مسلما أو غير ذلك فيما ألزم به الناس مما خالف الشرع والدستور ومنظمة الصحة ؟)

إن الجواب على هذه التساؤلات لا شك يسهل الوصول إلى الفهم السليم المعين على فهم أصل الاستفتاء.

إن كورونا وباء منتشر لم يختلف على انتشاره اثنان وإن تناطح في معرفته ومن تسبب به ودوائه كبشان، وقد اشتد انتشاره وتفاعل الناس معه في أقطار العالم بداية ظهوره بخلافه الآن أواخر سنة 2020م فهو في أول الأمر شديد وفي آخره ضعيف.

وإن منظمة الصحة العالمية التي تعنى بالصحة العالمية من حيث مراقبتها ومتابعتها ورصد ما يدور فيها من بحوث علمية واختراعات طبية حتى صارت المرجع للبلدان قد أوصت بتوصيات منها ما أسلفتم ذكره من دفن أو حرق الميت بمرض كورونا مع كثير من الاحترازات، حتى صارت غالب البلدان بحكوماتها وناسها رهينة لها. وهي في ذلك تُحَكِّمُ دائبةً البحث العلمي بالمعايير الصحيحة دون التفات إلى ترهات المنتسبين إلى الطب زورا.

هذا وإن بان لنا أيضا أنها قد تكون عرضة للضغوطات السياسية التي تؤثر على اتخاذ قراراتها الطبية في أحيان أخرى من الدول الكبرى الداعمين لها بالمال والأمان؛ ما يجعل النفس على ريبة من بعض قراراتها، فليكن الفقيه منها على حذر دون أن يمس ذلك ميزان اعتداله وإنصافه وحسن النظر.

إن تشديد حكومة سريلانكا الإجراءات الاحترازية في التعامل مع المرض المذكور واعتبار ذلك أنه تشدد منها لا على وجه طبي مرجعه عدم موافقتها لما أوصت به منظمة الصحة العالمية كما يظهر، وهو ما يبدو من سؤالكم، وهذا كأنه يجعل من منظمة الصحة العالمية هي المعيار الوحيد الذي يجب الأخذ به دون غيره! وهذا الاعتبار هو المعروف والمشهور والمعتبر بين كثير من البلدان وفهوم الناس على اختلاف الأجناس. لكن هل هذا معيار ملزم وإن كنا اعتبرنا هذه المنظمة كالأم لغيرها في مجالها؟! وهل اعتماد غيره من المعايير غير صحيح؟! وهل يجب على الحكام أن يأخذوا بقراراتها ويلزموا بها شعوبهم لأنهم ملزمون بها؟! هذا محل بحث ونظر نحتاج فيه أولا لمعرفة رأي أهل الاختصاص في هذه المنظمة وقراراتها، وعلى كُلٍّ سواء أخذت حكومة سريلانكا بما قالته منظمة الصحة العالمية أم لا؛ بأن كان لها مرجعا طبيا آخر أو لم يكن، فإن هذه المسألة متفرعة عن مسألة طاعة الحاكم وتفريعاتها.

ومعلوم عند أهل السنة والجماعة وجوب طاعة الحاكم المسلم في غير معصية، وفي أمور الحياة بما يحقق المصلحة العامة المتحققة ويدرأ المفسدة العامة المتحققة، أما فيما يحقق المصلحة الخاصة ويدرأ المفسدة الخاصة أو العامتين غير المتحققتين فإن طاعته لا تلزم. [على تفصيل أعرضنا عنه]

فإن قال أهل الاختصاص بوجود حل آخر غير حرق الجثث كطمرها مثلا في حفرة أعمق من المعتاد واطمأنت نفس المكلف لذلك فإنه يتعين عليه فعل هذا البديل الذي لا يخالف شرع الله عز وجل ما دام لا يصطدم مع قرارات الحاكم بما يضره بأن خاف على نفسه من تنكيل الحاكم، وإلا فليمسك عن الاثنين أعني الدفن والحرق - خوفا وطاعة، ويكون الواجب المتعلق عليه حينها قيامه بغسل الميت وتكفينه وغيره إن قدر على ذلك.

فإن منعه الحاكم من التغسيل والتكفين أيضا قلنا فيهما ما يقال في الدفن كما تقدم.

فإن أجبر الحاكمُ المسلمين بحرق الجثث ولم تنطبق عليهم شروط جواز الحرق ولم يستطيعوا دفع ذلك ولا فرارا كما تقدم تفصيله وغصبوا على ذلك فعلوه ولا حرج عليهم.

فإن لم يجبرهم لكن لا يوجد حل آخر غير الحرق ولا يتحقق الضرر العام إن لم يفعل الحرق أو كان الحرق يحقق مصلحة عامة ولو مظنونة بغلبة الظن في نظر الحاكم دون المأمور به من المسلمين فإنه يجوز للمسلم حينئذ حرق جثة المسلم.

أو أجبرهم لتحقق الضرر عنده وتحققه عندهم إن لم يفعلوا الحرق وجب الحرق عليهم.

فإن ترتب على عدم الحرق مفسدة عامة متحققة أو مظنونة غالبة الظن في نظر الحاكم وكذا في نظر المأمور به من المسلمين فإنه يجب حينها على هذا المأمور المكلف الحرق والإذعان للحاكم لأنه أيضا هو ما يعتقده.

ثم إن كان الحاكم غير مسلم ولم يراع حقوقا ولا ديانة ولا مذهبا ولا عرفا ولا عقلا ولا ما يقوله الأطباء وكان بإمكان المسلم الذي تحت حكمه الفرار بدينه إلى دار إسلام يمكنه إقامة شرع الله فيها ومع هذا بقي في دار الكفر رغبة وألفة فإن العتب عليه واللوم صائر إليه، بل لا يحق له أن يطلب منا حكما شرعيا سلطانيا وهو في دار يحكمها الكفر وأهله ولو كانت الغلبة لهم حينا وحينا، بل الواجب عليه أن يفر بدينه إلى دار يُمَكَّنُ له فيها من العمل بالشريعة وإظهار الشعيرة.

فانظروا رحمكم الله - إلى ما تقدم واعلموا أن جواب سؤالكم يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ويختلف باختلاف تحقق وجود حل آخر من عدمه، وكذا اعتبار القدرة على حماية النفس من تنكيل الحاكم فيما لو خولف ولا مفر منه، وكذا وجود المصلحة عامة من عدمها وكذا المفسدة. فيبقى عبء التفصيل هذا على كل مكلف في نفسه، ولا يصلح لنا تعميم الحكم مع اختلاف الأحوال وعدم وضوح العلاج وحقيقة المرض عند أهل الاختصاص أنفسهم.

إن تمام معرفة جواب السؤال الأول رهين بمعرفة جواب السؤالين الآخرين، وهم في المثل سواء.

لكن أيضا يمكننا أن نقول هنا ابتداء وبالإجمال أنه: لا يجب على ذوي الضحايا أو على غيرهم من المسلمين القيام بتوفير الصناديق الخشبية بنفقاتهم الخاصة ويجوز لهم عدم الالتفات إلى هذا الطلب الذي ألزمتهم به الحكومة السريلانكية شريطة أن يأمنوا بطش الحاكم وشريطة ألا يكون امتناعهم عن توفير الصناديق يؤدي إلى ضرر أكبر بهم أو بغيرهم ممن تلزمهم رعايته شرعا. وإلا فلا يجب عليهم شيء من ذلك أصلا ولا يحق لأحد أن يوجب على أحد شيئا إلا الشارع الحنيف {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب}.

وأما إن كان المقصود من السؤال هو: هل يلزمهم تجاه هذا الرماد ما يلزمهم فيما لو وجدت جثة ميتهم فهذا أيضا جوابه كسابقه بل فيه تفصيلات أخرى تعرف قريبا.


((السؤال الثاني، وجوابه، وتفريعاته))

هل يجب دفن الرماد الباقي بعد عملية الحرق، أم يجوز تركه على حاله؟

اعلم أنه إن صارت الجثة رمادا فإنه لا يتعلق بهذا الرماد حكم من جهة الدفن وما قبله من أمور إلا الصلاة عليه فقد اختلفوا فيها، والراجح عند ساداتنا أنه لا تعلق لها به أيضا، وعليه فلا يأثم المكلف بترك هذا الرماد على حاله أو ذره.

وأصل هذه المسألة أن فقهاءنا اعتبروا في جريان تمام أحكام الجنازة على "وجود جثة قريبة من المصلي عليها، للميت المسلم من لحم وعظم، المكتمل نُمُوُّهُ، ويَقدِرُ على غسله من تقوم بهم الكفاية في سقوط الفرض عن المكلفين دون مانع شرعي".

وهذه القيود التي وضعتها مستقاة من مجموع ما سطروه مما سننقل طرفا منه قريبا، إلا أننا قبل ذلك نشرح هذه القيود على وجه السرعة بما يزيل عنها اللبس.

فقولنا: "وجود جثة" عبرنا بالوجود لتعلق الأحكام به، ثم عبرنا بالجثة لأنها تطلق على الإنسان دون غيره بخلاف الجسد فقد يطلق على الملائكة والجن، وعلى غيرهم عند من قال به ودليله {عجلا جسدا له خوار}، فأما الملائكة فلم يرد موتهم إلا يوم القيامة عند النفخ في الصور {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا ما شاء الله}، ولا تتعلق بهم أحكام في هذا الجانب، وأما الجن فلا أعلم أنهم يصيرون رمادا وإن جاز حرقهم وتعذيبهم بالنار التي هي من جنس خلقتهم، لذلك التفتنا عنهم.

وقولنا: "قريبة من المصلي عليها" صفة للجثة، وقيد أردنا منه إخراج الغائب إذ له أحكامه الخاصة به كصلاة الغائب.

وقولنا: "للميت المسلم" متعلق بالجثة، وهو مخرج غير المسلمين لا لعدم احترامهم بل لأن ذمم المسلمين لا تتعلق بغير الميتين من المسلمين إلا في أحوال خاصة، ولأنه لو تعلق بالذمة بهم شيء فهو خاص لبعضهم وفي بعض الأحكام فلا يصلى عليهم وإن طُلبت مواراة بعضهم ككافر غير حربي، ولأن لهم أحكامهم التي تخصهم؛ فلا ننشغل بهم. وهو أيضا قَيد مُدخل للسقط وصغار أولاد المسلمين لأنهم يتبعون آباءهم في اعتقادهم ودينهم.

وقولنا: "من لحم وعظم" متعلق بالجثة ومفسر لها، أي وإن لم يكونا مما تقوم بهما الحياة لو انفصلا عما اتصلا به بعد الموت؛ فجزء الجثة كَيَدٍ انفصلت عنها بعد الموت له كل الأحكام من غسل وصلاة ودفن كما الجثة كاملة، ويَعتبر المصلِّي عليه في نيته جملة الميت لا العضو وحده، وأما إن انفصل الجزء قبل الموت حالة الحياة كيد مقطوعة من سارق فلا تتعلق به تمام أحكام الجنازة وإن كان المطلوب مواراته. والرماد ليس بجزء ولا جثة فلذلك لم يطلبوا مواراته ولا دفنه ولا تعلق أحكام الجنازة به كما سيأتي، فلعلهم اعتبروه استحالة للجثة وهو الأشبه، وعليه فعدم تعلق الأحكام به ظاهر، ويكون الدعاء للميت حينها على اعتبار روحه وما سيجمعه الله له من جسده في عالم البرزخ وما بعده.

وقولنا: "المكتمل نُمُوُّهُ" صفة للمسلم بجميع اعتباراته، ليدخل السقط الذي اكتمل نموه ونفخت فيه الروح ونزل من بطن أمه وهو يصيح ثم مات فإنه يأخذ جميع الأحكام التي للميت، أما غير المكتمل كسقط ناقص نموه وعمره ونزل من بطن أمه وهو لا يصيح أو نزل قبل نفخ الروح فيه فإنه لا تتعلق به جميع أحكام الجنازة التي نحن في معرضها وإن تعلق به بعضها لذلك أخرجناه من كلامنا.

وقولنا: "ويَقدِر على غسله" أي مما هو في عرف الناس ولا يجر لمفسدة أو مشقة ظاهرة، وتعبيرنا بالقدرة أولى من الإمكان لأن بابه أوسع وهو غير مطلوب هنا.

وقولنا: "من تقوم بهم الكفاية في سقوط الفرض عن المكلفين" قيل ولو واحد؛ أي إن قدر على القيام بجميع ما يلزم للميت مما يسقط الإثم عن بقية المكلفين.

وقولنا: "دون مانع شرعي" كشهادة في سبيل الله تحققت في الميت فلا يصلى عليه كما لا يخفى، أو كخوف من ذي بطش فيسقط التكليف عن المكره كما هو معلوم، ويدخل فيه الموانع الوضعية والعقلية فإنها معتبرة شرعا أيضا.

إذا اتضح ما تقدم فإليك بعض نصوصهم التي تتعلق بما نحن فيه مستقاة من بطون كتب أئمتنا:

قال شيخ الإسلام في أسنى المطالب: "(فَلَوْ وَقعَ فِي بِئْرٍ أَوْ انْهَدَمَ عَلَيْهِ مَكَانٌ) وَمَاتَ (وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ) وَغَسلَهُ (لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) كَذَا نَقَلَهُ الْأَصْلُ وَالْمَجْمُوعُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَجَزَمَ بِهِ الْمِنْهَاجُ لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ كَالسُّبْكِيِّ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَنَقَلَهُ عَنْ الدَّارِمِيِّ وَالْخُوَارِزْمِيّ وَعَنْ حِكَايَةِ الْجُوَيْنِيِّ لَهُ عَنْ النَّصِّ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُ الصَّوَابُ نَقْلًا وَدَلِيلًا وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ" انتهى

قال الرملي الكبير في شرحه على أسنى المطالب: "(قَوْلُهُ فَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ إلَخْ) أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ أَوْ احْتَرَقَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا" انتهى

قال العلامة ابن حجر في التحفة: "(فَلَوْ مَاتَ بِهَدْمٍ وَنَحْوِهِ) كَوُقُوعِهِ فِي عَمِيقٍ أَوْ بَحْرٍ (وَ) قَدْ (تَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ) مِنْهُ (وَغَسْلُهُ وَتَيَمُّمُهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَطَالُوا بِمَا مِنْهُ بَلْ أَمْتَنُهُ أَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِصِحَّةِ صَلَاةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ بَلْ وُجُوبُهَا وَيُرَدُّ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّ الشَّارِعُ طَرَفَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا". انتهى

وفي مغني المحتاج للخطيب: "(فَلَوْ مَاتَ بِهَدْمٍ وَنَحْوِهِ) كَأَنْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَمِيقٍ (وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُه وَغُسْلُهُ) وَتَيَمُّمُهُ (لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ. وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، لِمَا صَحَّ «وَاذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ وَجَزَمَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ مَنْ أُحْرِقَ فَصَارَ رَمَادًا أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ بِذَلِكَ، وَبَسَطَ الْأَذْرَعِيُّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَلْبُ إلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَمْيَلُ، لَكِنَّ الَّذِي تَلَقَّيْنَاهُ عَنْ مَشَايِخِنَا مَا فِي الْمَتْن". انتهى وكذا نقله عنه بتصرف في إعانة الطالبين.

[ملاحظة]:

سنكتفي بما أورده ابن حجر على من خالف الراجح المفتى به حتى لا نطيل وحتى لا يخرج الجواب عن المقصود. ويظهر من كلام العلامة بافضل في مقدمته الحضرمية أنه يؤيد المرجوح حيث يقول: "ومن ذلك (اليوم الآخر) وهو من بعث الناس من قبورهم الى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أو إلى ما لا نهاية له، أو من الموت إلى ما ذكر، وهو المراد هنا؛ لأن من مات قامت قيامته، فيجب الإيمان به، وبما اشتمل عليه من سؤال الملكين منكر ونكير لمن مات وإن لم يدفن، أو أحرق وصار رماداً بعد إكمال دفنه بعد إعادة الروح إلى جميع البدن، ولا يسألان عن غير الاعتقاد، فمنهم من يسأل عن بعض اعتقاده، ومنهم من يسأل عن كله".

قلت: أو يُؤَوَّلُ كلامه بغير هذا لكنه يبعد جدا ومتكلف، فالأولى حمل كلامه على أنه خالف الراجح في ترجيحه، والله أعلم.

فما سبق يدل على أن الرماد لا تتعلق به أحكام في الراجح من مذهبنا من جهة الصلاة وغيره مما يجب للميت قبل أن يصير رمادا كما أسلفنا، وأن الرماد لا تتعلق به أحكام بخلاف ما انفصل من الجسد فإنه تجب مواراته.

قال البجيرمي في حاشيته على شرح المنهج: "(قَوْلُهُ: غَيْرِ آدَمِيٍّ) بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ لَا يَجُوزُ الْوَصْلُ بِعَظْمِهِ. أَيْ حَيْثُ وُجِدَ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ م ر سم ع ش قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنَّ مَحَلَّ الِامْتِنَاعِ بِعَظْمِ نَفْسِهِ، إذَا أَرَادَ نَقْلَهُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ بِانْفِصَالِهِ مِنْهُ حَصَلَ لَهُ احْتِرَامٌ وَطُلِبَتْ مُوَارَاتُهُ ع ش عَلَى م ر" انتهى

وفي حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب: "(قَوْلُهُ وَيُصَرُّ فِي كَفَنِهِ) قَالَ شَيْخُنَا صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِحْبَابِهِ وَلَعَلَّهُ مِنْ حَيْثُ الصَّرُّ وَإِلَّا فَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَجِبُ دَفْنُ مَا وُجِدَ مِنْ جُزْءِ مَيِّتٍ انْفَصَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَوْلِهِ (وَيُدْفَنُ مَعَهُ إلَخْ) وَاخْتَارَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهَا لَا تُدْفَنُ مَعَهُ إذْ لَا أَصْلَ لَهُ" انتهى

ثم اعتبار القرب والبعد من الجثة يغير من أحكام صلاة الجنازة كما في صلاة الغائب؛ جاء في حاشي عميرة: "وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّ الشَّخْصَ إذَا مَاتَ بِهَدْمٍ وَتَعَذَّرَ غُسْلُهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْغَائِبَ إذَا كَانَ بِبِلَادِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهَا وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ تَغْسِيلِهِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ شَكَّ فِي غُسْلِهِ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ، ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيَّ نَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْوَافِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ السُّوَرِ قَرِيبًا مِنْهُ، فَهُوَ كَدَاخِلِهِ". فتأمل.

هذا وقد قدمنا أولا أن المقصود من القبر احترام الميت وإبعاد الأذى عن جثته وإبعاد أذى رائحته عن الناس القريبين منه.

جاء في حاشية البجيرمي على شرح المنهج: "(قَوْلُهُ أَقَلُّ الْقَبْرِ حُفْرَةٌ) أَيْ أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْوَاجِبُ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ حُفْرَةٌ وَخَرَجَ بِالْحُفْرَةِ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَلَوْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ فَإِنْ كَانَ بِقُرْبِ السَّاحِلِ انْتَظَرُوا وُصُولَهُ إلَيْهِ لِيَدْفِنُوهُ بِالْبَرِّ وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: شَدُّهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ وَيُلْقَى فِي الْبَحْرِ لِيُلْقِيَهُ إلَى السَّاحِلِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ كُفَّارًا فَقَدْ يَجِدُهُ مُسْلِمٌ فَيَدْفِنُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَإِنْ أُلْقِيَ فِيهِ بِدُونِ جَعْلِهِ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَثُقِّلَ بِحَجَرٍ أَيْ وَنَزَلَ إلَى الْقَرَارِ لَمْ يَأْثَمُوا. اهـ. ز ي. (قَوْلُهُ تَمْنَعُ رَائِحَةً) الْمُرَادُ مَنْعُهَا عَمَّنْ عِنْدَ الْقَبْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهَا تَأَذِّيًا لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً لِأَنَّ مَلْحَظَ اشْتِرَاطِ مَنْعِ الْقَبْرِ لَهَا دَفْعُ الْأَذَى عَنْ النَّاسِ، وَالْأَذَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنْ تَفُوحَ مِنْهُ رَائِحَةٌ تُؤْذِي مَنْ قَرُبَ مِنْهُ عُرْفًا إيذَاءً لَا يُصْبَرُ عَلَيْهِ عَادَةً شَوْبَرِيٌّ وَقَوْلُهُ: رَائِحَةً وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي مَحَلٍّ لَا يَدْخُلُهُ مَنْ يَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ بَلْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ أَصْلًا كَأَنْ جَفَّ .. (قَوْلُهُ: وَسَبُعًا) وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي مَحِلٍّ لَا تَصِلُ إلَيْهِ السِّبَاعُ أَصْلًا. اهـ. ع ش عَلَى م ر (قَوْلُهُ: بَيَانُ فَائِدَةِ الدَّفْنِ) أَيْ بَيَانُ مَا أَرَادَهُ الشَّارِعُ مِنْ الدَّفْنِ وَقَدْ عُلِمَ عَدَمُ اللُّزُومِ بِنَحْوِ الْفَسَاقِي فَإِنَّهَا قَدْ لَا تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَبِنَحْوِ رَدْمِ تُرَابٍ بِلَا بِنَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ السَّبُعَ ق ل وَعِبَارَةُ م ر: وَظَاهِرٌ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ كَالْفَسَاقِيِ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ مَعَ مَنْعِهَا السَّبُعَ فَلَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيهَا .."انتهى بتصرف

والنقول التي تدل لما ذكرناه كثيرة متفرقة في بطون كتب القوم، وقد اكتفينا ببعضها.

[مسألة]:

لو سقط في بئر فمات فيه وعسر إخراجه فقد نصوا على أنه لا تجب الصلاة عليه في الراجح من المذهب خلافا للمتأخرين كالسبكي والأذرعي والخطيب وغيرهم لعدم توفر الشروط من غسل وتكفين، فهل يجب دفنه إن لم يحتج للبئر أو كانت جافة أو ماؤها ضار مؤذ لقدرتنا على الدفن أم يسقط أيضا بحكم سقوط الشروط التي أسقطت صلاتنا عليه؟! أم يكون كالسقط الذي وجب دفنه وتكفينه وإن لم يصل عليه؟! أو كالكافر غير مهدور الدم بجامع مواراته عن الناس لعدم الإيذاء له أو لعدم إيذائه لغيره كرائحة تؤذي قريبا منه؟! أو للاحترام؟!

محل بحث ونظر وتفصيل يطول، خلاصته جواز طمرها احتراما له ودفعا للإيذاء عنه ومنه ما لم نحتج للبئر كجفافها أو ضر نتج بها وعنها، وما لم نقدر على إخراجه، وإلا فلا، والله أعلم.

وخلاصة القول في جواب السؤال الثاني أنه لا يجب دفن الرماد الباقي بعد عملية الحرق، سواء كانت عملية الحرق صحيحة أم غير صحيحة، ويجوز تركه على حاله أو يذر في الهواء، بل لا يجوز دفنه كما سيأتي بيانه في جواب السؤال الثالث.


((السؤال الثالث، وجوابه، وتفريعاته))

هل يجب دفنه فى مقابر المسلمين فى حالة وجوب دفنه؟

قال في فتح العزيز: "وإذا بلي الميت لم يجز عمارة القبر وتسوية التراب عليه في المقابر المسبلة لئلا يتصور بصور القبور الجديدة فيدفن فيه من شاء ميته". انتهى

وهذا نص لم يعتبر الميت الذي صار ترابا شيئا، لكن قد يقال بأن هذا نص فيمن صار ترابا بعد أن قامت به أحكام الجنازة وصلي عليه ودفن وهو جثة ثم صار ترابا، بينما ما نحن فيه حُرِقَ وصار رمادا قبل دفنه فَلِمَ لا ينطبق عليه ما قاله المتأخرون كالسبكي والأذرعي والخطيب كما تقدم من أن (الميسور لا يسقط بالمعسور) وأن فاقد الطهورين يصلي!

قلنا كما قال ابن حجر في تحفته لأنه يرده من جهة اعتبار الصلاة فارق دقيق وهو أن فاقدهما يصلي لحرمة الوقت الذي حد الشارع طرفيه ولا هنا، فتأمل.

ثم اعلم أنه من باب أولى أن لا يُعتبر من صار رمادا ابتداء إذا لم يعتبر من كان جثة ابتداء فآل إلى رماد بعد أن غسل وكفن وصلي عليه ودفن ثم نبش قبره بعد مدة، فتأمل، والله أعلم.

أقول: وكأنهم لم يعتبروا الرماد شيئا من جهة أحكام الجنازة لأن الشرع الحنيف جوز لنا نبش القبور القديمة التي صار من فيها رمادا ووضع الجثث الجديدة مكانها فصار هذا دليلا على أن العبرة بالجثة بما اعتبرناه سابقا، وصار هذا دليلا أقوى مما ذكره المتأخرون مما تقدم ذكره دون تفنيده وتفصيل الرد عليه، ولعلي أنشط له في وقت آخر وحال أخرى، نسأل الله العون والثبات عند تغير الأحوال.

قال النووي في المجموع: "لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ مَيِّتٌ فِي مَوْضِعِ مَيِّتٍ حَتَّى يبلي الأول بحيث لا يبقى منه شئ لا لحم وَلَا عَظْمٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ دَفْنِ مَيِّتٍ عَلَى مَيِّتٍ هُوَ مَنْعُ تَحْرِيمٍ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ (وَأَمَّا) قَوْلُ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُسْتَحَبُّ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يُدْفَنَ كُلُّ إنْسَانٍ فِي قَبْرٍ فَمُتَأَوَّلٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَصْحَابِ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَيُسْتَدَامُ الْمَنْعُ مَهْمَا بَقِيَ مِنْ الميت شئ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَظْمٍ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بهذا في قوله ولم يبق منه شئ. فَأَمَّا إذَا بَلِيَ وَلَمْ يَبْقَ عَظْمٌ بَلْ انْمَحَقَ جِسْمُهُ وَعَظْمُهُ وَصَارَ تُرَابًا فَيَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّفْنُ فِي مَوْضِعِهِ بِلَا خِلَافٍ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْبِلَى أَنْ يُسَوَّى عَلَيْهِ التُّرَابُ وَيَعْمُرُ عِمَارَةَ قَبْرٍ جَدِيدٍ إنْ كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ لِأَنَّهُ يُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ جَدِيدٌ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ الدَّفْنِ فِيهِ بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ خَرَابًا لِيُدْفَنَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ الدَّفْنَ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالرُّجُوعُ فِي مُدَّةِ الْبِلَى إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ وَالْمَقْبَرَةِ قَالُوا فَلَوْ حَفَرَهُ فَوَجَدَ فِيهِ عظام الميت عاد الْقَبْرَ وَلَمْ يُتْمِمْ حَفْرَهُ قَالَ أَصْحَابُنَا إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فَلَوْ فَرَغَ من القبر وظهر فيه شئ مِنْ الْعِظَامِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجْعَلَ فِي جَنْبِ الْقَبْرِ وَيُدْفَنَ الثَّانِي مَعَهُ وَكَذَا لَوْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى دَفْنِ الثَّانِي مَعَ الْعِظَامِ دُفِنَ مَعَهَا" انتهى

وأكد ذلك في الروضة فقال: "فَرْعٌ: لَا يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: أَنْ يَبْلَى الْمَيِّتُ وَيَصِيرَ تُرَابًا، فَيَجُوزُ نَبْشُهُ وَدَفْنُ غَيْرِهِ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَرْضِ، وَإِذَا بَلِيَ الْمَيِّتُ، لَمْ يَجُزْ عِمَارَةُ قَبْرِهِ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ، لِئَلَّا يَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْقَبْرِ الْجَدِيدِ فَيَمْتَنِعَ النَّاسُ مِنَ الدَّفْنِ فِيهِ." انتهى.

وخلاصة القول: أنه لا يجوز دفن رماد الجثة باتخاذ قبر لها في مقابر المسلمين، وعليه فلا يلزم المسلم الذي يلي الميت أن يكلف على نفسه شراء تابوت، والله أعلم.


[خاتمة]

ختاما، أرجو أني وفقت للجواب الذي بذلت فيه جهد المقل المقلد لا المستقل، رغم كثرة الأشغال وقلة البضاعة والحال، وحاولت في هذه العجالة أن أختصر وأَبين الكلام وأن لا أخوض إلا في المهم من الأحكام على مذهب سيدنا الشافعي الإمام، والراجح مما قره الشافعية الأعلام، مقتصرا على بعض النقول ومعرضا عن كثير من الإشكالات لا عن ذهول ولكن في المذكور الكفاية، ومن الله الرعاية، فما كان من صواب فمنه سبحانه، وما كان من خطأ فمن الشيطان ومن نفسي الفتانه.

ثم لتعلموا إخواني الكرام أنني وأنا أكتب لكم هذه الكليمات أُخوة ومحبة ورحمة واجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم لَأستشعر بالغصة التي يحملها المرء منكم حفاظا على دينه ومواجهة لما يَنتَهِك مشاعره بحرق أحبابه وأقربائه، رغم مدافعته الدموع عند بكائه، إلا أن إرادة الله غالبة إذا شاء، والله تعبدنا بالصبر والابتلاء، وجعل ذلك معيارا للنبوات حيث قال عليه أفضل الصلاة: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، فأسأل الله عز وجل أن يمسح على قلوبكم بالسكينة ويربط عليها بالصبر ويَقبَل، وأن يرفعكم درجات ودرجات في دنيا وجنات. ورحم الله موتاكم وموتانا وموتى المسلمين، إنه رؤوف رحيم معين.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على النبي الأمين

وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين


وكتبه المفتقر إلى رحمة ربه الرحمن

أيـــــــــوب بن رشــــــــــــدان

تم عصــر الجمعـــــة

26 ربيع الآخر 1442هـ

الموافق 11 ديسمبر 2020م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق