إجَابَةُ مَنْ
سَأَلْنَ
عَنْ
حَالِ رَاءِ {وَقَرْنَ}
تأليف
أيوب بن رشدان
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله رب الأرباب، مُسَبِّبِ الأسباب، والصلاة
والسلام على خير الأحباب سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن إلى ربه تاب وأناب،
وبعد..
فهذا جواب سؤال وردني من إحداهن تستشكل فيه عدم التشديد
على الراء في فعل الأمر للنسوة من قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن}، تقول: كيف لم
تشدد الراء في فعل الأمر لجمع النسوة "وقرن" مع أن أصل الكلمة قبل الأمر
بها مأخوذ من الاستقرار المأخوذة من باب "قَرَرَ"، وهي تحتوي على راءين
في أصل الكلمة؟ فكيف ساغ حذف إحدى الراءين عند الأمر بها فقيل: "وقرْن" مع
أن الأصل وجود راءين؟
فأقول وعليه اعتمادي:
حتى تُفْهَم المسألة حق الفهم فلا بد من بسط الكلام بعض
الشيء على النحو التالي: اختلف العلـمـاء في قـولـه تعـالى: {وقرن} هـل هـو مأخوذ
مـن باب "قَرَرَ" – بفتح القاف – من القـرار الذي من معانيه الثبات؟ أم
هـو مأخوذ من باب "وَقَرَ" – بفتح الواو – من الوَقار الذي من معانيه
الحلم والرزانة والجلوس؟
مُهِمَّة: اختلف القراء
في أداء قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن}، فالمشهور الذي عليه قراءة أهل الزمان من قراءة
حفص عن عاصم ومن تبعه من القراء أن الأداء فيها يكون بفتح قافها هكذا {وقَرْنَ في
بيوتكن}، وقرأ غيرهم من الأئمة القراء بكسر قافها هكذا {وقِرْنَ}، وهما قراءتان
متواترتان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سيأتي توجيههما ضمن هذا الرد.
إذا عُلِمَ ما سبق، وعُلِمَ أن الاستشكال يَرِدُ على
القول الأول القائل بأن قوله تعالى: {وقَرْنَ} {وقِرْنَ} – على القراءتين - مأخوذ
من "قَرَرَ" مكررة الراء، لا من "وَقَرَ" ذات الراء الواحدة،
وعُلِمَ أن كلا التخريجين صحيح، وحمله على التخريج الأول المُسْتَشْكَلِ أفصح
وأصح، إذا عُلِمَ كل ذلك بقي علينا حَلُّ الإشكال الوارد عند الأمر بـ"قَرَرَ"
لجمع النسوة كما ورد على لسان السائلة، وحل إشكال آخر عند الأمر بـ "وَقَرَ"
إن قلنا بأن الأمر في الآية محمول على هذا المعنى، وسيأتي بيان ذلك كله إن شاء
المولى القدير.
فعل الأمر من
"قَرَرَ" لجمع النسوة:
إذا حملنا قوله تعالى: {وقَرْنَ} {وقِرْنَ} في الآية على
أنه مأخوذ من باب "قَرَرَ" من الاستقرار بمعنى الثبات فإن ما جاءت به الآية
من أمر بـ"قَرَرَ" على "قَِرْنَ" - لِجمع النسوة - صحيح فصيح
على لسان العرب، إذ أن أصل الأمر من قوله: {وقَرْنَ} أن يقال: "اقْرَرْنَ"،
غير أنهم حذفوا الراء الأولى وحولوا فتحتها وجعلوها في القاف، فصار فعل الأمر لجمع
النسوة منها "قَرْنَ" بحذف إحدى الراءين، ويقال مثل ذلك إذا ما قرأنا
الآية على الأداء الثاني بكسر القاف {وقِرْنَ}، فيكون الأصل فيها "اقْرِرْنَ"،
فحذفوا الراء الأولى وحولوا كسرتها وجعلوها في القاف، فصار فعل الأمر لجمع النسوة
منها "قِرْنَ"، وهذا ما أشار إليه الإمام ابن منظور في لسان العرب
[11/99] في باب "قَرَرَ" حيث قال: "وقوله تعالى: {وقَرْنَ} {وقِرْنَ}
هو كقولك: ظَلْنَ و ظِلْنَ، فـقَرْنَ على اقْرَرْنَ كـظَلْنَ على اظْـلَـلْنَ،
وقِرْنَ على اقْرِرْنَ كـظِـلْنَ على اظْـلِـلْنَ" ثم ذكر بعدها بقليل ما
يصلح جوابا للاستشكال على ما أُوْرِدَ في السؤال فقال: " يُرَى أنهم إنما
أرادوا: واقْرَرْنَ في بيوتكن، فحذف الراء الأولى، وحُوِّلت فتحتها في القاف ...
ومن العرب من يقول: واقْرِرْنَ في بيوتكن، فإن قال قائل: وقِرْنَ، يريد واقْرِرْنَ
فتُحَوَّلُ كسرة الراء إذا أُسْقِطَت إلى القاف، كان وجها... وقد قال أعرابي من
بني نُمَيْر: يَنْحِطْنَ من الجبل، يريد يَنْحَطِطْنَ، فهذا يقوي ذلك. وقال أبو
الهيثم: {وقِرْنَ في بيوتكن} عندي من القرار، وكذلك من قرأ: {وقَرْنَ} فهو من
القرار، وقال: قَرَرْتُ بالمكان أَقُرُّ، وقَرَرْتُ أَقَرُّ...". انتهى كلامه
- رحمه الله تعالى - وهو كلام نفيس يدلل على ما ذكرناه، ويُجيب على ما أُوْرِدَ من
إشكال في سؤال السائلة، والحمد لله على نعمه الواصلة.
بقي عندنا إشكال آخر يَرِدُ على قراءة من قرأ {وقِرْنَ}
بكسر القاف فقط، إذ من قال بأنها أمر من الوَقار رأى ذلك على قراءة {وقِرْنَ} بكسر
القاف فقط، لا بقراءة الفتح {وقَرْنَ}، أما من قال بأنها أمر من القَرار فقد رأى
أن هذا المعنى يُخَرَّجُ على القراءتين {وقَرْنَ} {وقِرْنَ} كما تقدم.
فإذا ما حملنا قوله تعالى: {وقِرْنَ} على أنه من الوَقار فإن الإشكال عند تخريج الآية على هذا المعنى ليس لأن إحدى الراءين حُذِفَتْ عند الأمر بالكلمة كما مر عند حملها على "قَرَرَ"، لأن أصل الكلمة هنا "وَقَرَ" وليس بها إلا راء واحدة فقط، فَعُلِمَ أن الإشكال في غيرها، ومَكْمَنُهُ في فاء الكلمة والتي هي الواو من "وَقَرَ" حيث حُذِفَت عند الأمر لجماعة النسوة، فهل هذا سائغ في لغة العرب؟ وما هو نوع الواو في قوله {وقَرْنَ} {وقِرْنَ} التي في الآية بالنسبة للقراءتين؟
فعل الأمر من
"وَقَرَ" لجمع النسوة:
الحقيقة أن هذا الإشكال ليس بذي بال، إذ الجواب عليه
معروف مشهور، فَحَذْفُ فاء الفعل المعتل عند الأمر به في بعض الأفعال هو لغة العرب
الفصيحة، لذا أرى أن أختصر القول فأقول:
إذا أتى الفعل مُعتلَّ الأول بأحد حروف العلة وهي
(الألف، الواو، الياء)، فإنه عند الأمر به تُحْذَفُ فاؤه والتي هي أوله، لكن هذا
ليس مطردا عاما في كل فعل معتل الأول، وليس هذا محل بسطه إذ سيطول بنا المقام وسنخرج
عما نحن بصدده فنتركه لمظانه.
أقول: إذا فهمنا هذه
القاعدة بان لنا أن كلمة: "وَقَرَ" معتلة الأول، والعرب تحذف حرف العلة
من فاء الفعل الثلاثي عند الأمر به فتقول: "قِرْ"، ثم زد على ذلك نـون
النسـوة إذا ما أردت أن تأمـر جماعة النساء من الوَقار فتقول: "قِرْنَ".
قال في لسـان العـرب [15/365]:"..يقال وَقَرَ يَقِرُ وَقَارًا إذا سَكَنَ،
قال الأزهري: والأمر قِرْ، ومنه قوله تعالى: {وقِرْن في بيوتكن}.."اهـ. فبان
المراد والله الهادي إلى الرشاد.
أما الواو التي في قوله تعالى: {وقَرْنَ} {وقِرْنَ} فليست
من أصل الكلمة، وليست هي الواو التي في "وَقَرَ" الأصلية، لأننا حذفناها
عند الأمر بها كما علمت مما سبق، والجواب أن هذه الواوَ واوُ عطف ليس لها شأن فيما
نحن فيه.
وخلاصة القول: أن فعل الأمر من الاستقرار لجمع النسوة يأتي على "قَرْنَ" و "قِرْنَ"
في لغة العرب، وفعل الأمر من الوَقار يأتي على "قِرْنَ" فقط – بكسر
القاف -وهي إحدى القراءات المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قررنا
بأن حذف إحدى الرائين عند الأمر بالاستقرار سائغ جائز على لغة العرب الفصيحة فلا
إشكال على ذلك في الآية. والحمد لله العلي الغفار، وصلى الله على النبي المختار،
وعلى آله الطيبين الأطهار، وصحابته الميامين الأخيار، وعلى المسلمين والمسلمات
جميعا إلى أن يقوم الناس ليوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه الفقير
إلى رحمة ربه الرحمن
أيوب بن عيسى بن رشدان
تم بعون المولى القدير
في يوم الأربعاء
21/محرم/1426هـ
2/3/2005م
وبعد أربع سنوات من إنشاء هذه الرسالة
اطلعت على كتاب
(نتائج المذاكرة)
لأبي القاسم علي بن منجب بن سليمان المعروف
بابن الصيرفي
المتوفى سنة 542هـ
يذكر فيه هذه المسألة ص22 ويقررها كما
قررتها
فلله الحمد والمنة
وكتبه/أيوب بن رشدان
إفادة لطيفة فريدة
ردحذفنفع الله بكم وزادكم من فضله وكرمه