السبت، 13 نوفمبر 2021

تَنبِيهُ أُولِي النُّهَى بِالبِيتكُوينِ وَأَمثَالِهَا

تنبيه أولي النهى

بالبيتكوين وأمثالها

 

 

تأليف

أيوب بن رشدان

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المبعوث رحمة للعالمين وعلى اله وصحبه الطيبين الطاهرين وعنا معهم أجمعين وبعد..

فقد سئلت قبل أكثر من خمس سنوات تقريبا عن حكم التعامل بالعملة الافتراضية (البيتكوين) والاستثمار فيها منذ أول ظهور لها فأجبت السائل الفاضل بعد بحث لها ومباحثة معه استمرت أياما حتى خلصت معه إلى أنها حرام لما تفتقر إليه من اكتمال أركان الحِل وشروطه وما ينتابها من ضرر وغرر، وقد بنيت حكمي على ما أصله أئمة الدين من قواعد شرعية حفظ الله عز وجل بها خصوصية التعامل في البيوع والمعاملات بالنقدين وما أخذ حكمهما من النقود الورقية.

‏فأحجم هذا الفاضل عن التعامل بهذه العملة حيث كان يريد الاستثمار فيها آنذاك غير متأسف على ما فاته من أرباح، ولو أنه لم يلتفت لما قلناه ويعتقده شرعا لصارت جيبه مليئة بالملايين إلا أنه خسر دنيا في سبيل دين أسأل الله أن يعوضه خيرا ويزيده أجرا ورفعة في الدارين.

هذا وما زال البعض يسأل عن حكمها بعد أن ازداد المتعاملون بها وزاد إغراؤها لمحبي الاستثمار إذ أن عوائدها كبيرة وفيرة وتغري الأنفس الصغيرة، فكان جوابنا وما زال بالحرمة والمنع لعدم طروء جديد.

ثم سألني عنها أحد المعتنين بدينهم من نسل المشايخ فأجبته بالحرمة فرجع مرة ثانية بعد مدة من الزمن يستخبرني عن الأصول والقواعد التي بنيت عليها حكمي وذلك بعد أن كلم جده لأمه فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد السلام وأخبره بأني أقول بالحرمة في هذه المسألة كما يقول غيري! ‏فسأله عن مستند التحريم وأدلته، ‏فأخبرت هذا الطالب المعتني المجد بأن يكتب السؤال ويورده حتى يتم توثيق الجواب كتابة فإن القلم قد يكون أوثق من اللسان وأفصح وأبين وأسلم، فأورد علي سؤاله كما سنورده ثم جوابنا عليه والله ولي التوفيق.

 

[نص السؤال]

((ما هي الأسس الشرعية التي بني عليها الحكم الشرعي (وهو التحريم) في التعامل بعملة البتكوين الرقمية وأمثالها ؟))

[الجواب]

أما جملة فحكم التعامل بالبيتكوين الحرمة لعدة أسباب منها الغرر والضرر، وأما تفصيلا فنقول:

إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وإن كمال التصور يتم بالتعريف الصحيح للشيء المراد الحكم عليه، وهو هنا (البيتكوين)، وقد بحثت عن تعريف لها في أول ظهورها فلم أجده، فعلمت أن الناس ابتلوا بها واقتحموا فيها قبل علمهم بحكمها وهو أمر خطير لا يلجه من يخاف على دينه، إذ الواجب على من جهل شيئا التوقف عنده لا الاقتحام فيه.

ثم مؤخرا وجدت البعض قد عرفها بأنها (أول عملة رقمية افتراضية لا مركزية) وهو تعريف غير منضبط تماما ولكني أظنه يكفي لتصورها تصورا مجملا جيدا في هذا المقام.

ولا يقال لنا بأن نقصان التعريف يلزم منه نقصان التصور وعليه فما بنيته عليه من حكم يعتبر ناقصا! لأنا نقول بأن الحد والتعريف من أوجه التصور الكثيرة وليس هو الوجه الوحيد للتصور، ولذلك قلنا ابتداء: "إن كمال التصور يتم بالتعريف الصحيح للشيء المراد الحكم عليه وهو هنا (البيتكوين)" ولم نقل: "إن حقيقة التصور.."؛ وعليه فلا يلزم من عدم الحد والتعريف أساسا عدم التصور كما أنه لا يلزم من وجود التصور وجود الحد والتعريف حقيقة، وإنما يلزم من عدم التصور عدم الحكم، ونحن هنا متصورين لهذه البيتكوين -وإن لم نَعْرِف لها تعريفا منضبطا تاما- فيما يخصنا ويتعلق بها من حرمة، بل إنه على فرض حصول النقصان في تصورها فإنه يلزم من ذلك الغرر والضرر الموجبان للحرمة حتى يزولان فما بالك وهما قائمان، فتأمل.

 

[شرح التعريف]

ولنعرج أولا على شرح بسيط لما يعنينا من التعريف حتى يسهل فهم أوجه الحرمة وأدلتها لاحقا فنقول:

البيتكوين هي:  (أول عملة رقمية افتراضية لا مركزية).

ومعنى قولهم (عملة): أي يُتعامل بها، ويمكن تداولها، وكأن مُعرِّفها بهذا أراد أن يقيسها أو يجعلها كالعملات المتداولة والتي يراد بها أن تكون في قيمة النقدين تداولا، وهنا يحسن التنبيه إلى أن البعض اعتبر البيتكوين بضاعة وعلى هذا بنى حكمه في تجويز التعامل بها وسيأتي الرد عليه ضمن هذه الفتوى لاحقا، فارتقب.

ومعنى قولهم (رقمية): أي تدخل في حساب الرقمية المتعلقة بالحواسيب المسماة اليوم بـــ(الكمبيوترات).

ومعنى قولهم (افتراضية): أي لا وجود حقيقي لها بحيث يمكن فيها القبض والتقابض على حقيقة قوله (يدا بيد)، وإنما يمكن التقابض فيها مجازا.

ومعنى قولهم (لا مركزية): أي لا يغطيها بنك مركزي يتبع قوة سياسية أو دولة، وإنما تستمد قوتها من التداول نفسه بين مجموعة أفراد.

 

ملاحظة: هذه المعاني توصلت إليها من خلال اطلاعي على حال البيتكوين عبر القراءة والبحث في الشبكة العنكبوتية، وعبر المباحثة مع بعض ممن تداولها أو عنده علم بها.

 

وأما معنى هذا التعريف بالجملة وبعيدا عن تعقيداته فإن المفهوم العام لهذه العملة هو أن من أنشأها يريد من خلالها الاسترباح، فأنشأ شيئا اعتباريا لا وجود له في الواقع وسماه البيتكوين، وأراد بطريقة ما أن نعطي هذا الشيء الاعتباري الذي أنشأه في عالم افتراضي وهو عالم الحواسيب والكمبيوترات صفة حقيقية من خلال تعاملنا معها كتعاملنا مع العملات الحقيقية، والعملة الحقيقية -كما هو معلوم اليوم- لها وجود بين الناس وهي ورقية في غالبها ومعدنية في بعضها ويمثلها بنك مركزي يدعمها وهو تابع للبلد التي أنشئت فيه، ويضمن لمتداوليها المحافظة على الثمنية التي تقوم عليها والتي تأسست ابتداء على المخزون الذهبي لكل بلد وحكومة (وإن تغير الحال بعد ذلك إلا أن الدول ما زالت تقاس أساسا على مخزونها الذهبي ثم على سياساتها واقتصادها وتراكم كل ذلك ومدى تأثيره على اقتصاد الدول وعملاتها الورقية المتداولة رسميا) وذلك حتى يصح تداولها؛ إذ لا بد للعملة من وجود ثمنية بها حتى تعاوض غيرها، ولا بد من ضمان لها وهي الثمنية ابتداء أو ما يقوم مقامها في غير النقدين (الذهب والفضة).

أقول: أراد منشئها أن يجعل لهذه العملة الافتراضية المسماة بالبيتكوين قوة كقوة العملة الورقية المنقادة للنقدين حتى يستطيع من خلال ذلك جذب الناس إليها لتتداول مع غيرها من العملات أو غيرها من الأشياء معاوضة وهمية لا ترجع إلى معرفة حقيقة قيمة هذه العملة ومن وضع لها هذه القيمة ومن أين أخذته، فكان جذب الناس إليها وترويجها لا من خلال الضمانات الحقيقية أو التعريف الحقيقي لهذه العملة لإبعاد أي ضرر أو غرر وإنما من خلال الربحية الموهومة وحسب!! حتى إني وجدت بعضا ممن استثمر فيها وهو لا يعلم ما هي هذه العملة على الحقيقة وإذا سألته عنها وعن حكمها تمتم لي هامسا بأن أرباحها كثيرة وفيرة!!

وهنا يجب التنبيه إلى أنني لست أحرم أي عملة افتراضية أو رقمية مطلقا وإنما نحرم ما توافر فيها الضرر والغرر وبنيت على الجهالة والعمى كما في هذه العملة، بل حتى هذه العملة لو زالت عنها موانع الحل وتوافرت فيها الشروط والأركان المعتبرة لصارت حلالا بلالا.

 

[معلومات عن البيتكوين]

هذه معلومات عامة عن البيتكوين تعزز فهمها قد أخذناها من موقع النجاح إذ أوردها ضمن فتواه التي توقف فيها عن الحكم عليها بالحل أو الحرمة، فنقلناها هنا بتصرف لأنها مفيدة وتوضح الصورة أكثر في التعريف بها قبل خوضنا في أدلة حرمتها وهي كالآتي:

أولا: البيتكوين: هي عملة الكترونية يتم تداولها عبر الانترنت، دون وجود مادي محسوس لها.


ثانيا: الفرق بينها وبين العملات الأخرى بأنها:
1. عملة افتراضية وليست شيئاً عينياً.
2. ليس لها هيئة منظمة تصدرها.
3. غير مدعومة بغطاء ذهبي أو بقانون من الدولة، وانما قوتها من قوة المتعاملين بها، فأساس وجودها ثقة الناس بها.
4. يتم تداولها عن طريق عملية برمجة وحل خوارزميات رياضية من خلال عنوان رقمي لها، مربوط بمحفظة الكترونية.


ثالثا: تم طرحها للتداول من قبل شخص اسمه ساتوشي وقيل: من مجموعة لا يُعلم بالتحديد من هي، وذلك في 2009 بقيمة كل بيتكوين 0.0001 دولار وارتفع قيمة البيتكوين الواحد في 2011 إلى 35 دولار وفي منتصف 2017 إلى 4 آلاف دولار وفي هذا الشهر إلى 6 آلاف دولار.


رابعا: معظم دول العالم تسمح بتداولها دون الاعتراف بها رسمياً باستثناء ألمانيا التي اعترفت بها بشكل رسمي كعملة.
خامسا: الدافع وراء إصدارها: كسر احتكار حكومات الدول إصدار العملات والتحكم بها. لذا فشبكة البيتكوين مفتوحة وتدار من كل الناس الذين يتعاملون بها ويستطيع أي شخص أن يعدل على نظامها إذا استطاع الوصول إلى نظامها الداخلي من خلال شبكات الإنترنت.


سادسا: مخاطر التعامل بالبيتكوين:
1. ليس هناك هيئة رسمية منظمة، معلومة، تصدر هذه العملة وبالتالي ليس لها مرجعية معروفة للتحاكم إليها في حال حصول الضرر أو الخطر.
2. غير معترف بها رسمياً من معظم دول العالم.
3. تحتوي على كثير من المخاطر والغرر والجهالة، وهي عبارة عن محفظة رقمية في حال نسيان أو ضياع الرقم السري لها يضيع كل الرصيد.
4. يغلب استعمالها في التجارة المشبوهة خاصة غسيل الأموال .
5. تعرض سعر العملة للتذبذب بسبب خطر الفيروسات.
6. أساس وجودها ثقة الناس بها فإذا فقدت الثقة انتهت العملة.


سابعا: إيجابياتها:

1. يمكن الشراء والتعامل بها بسهولة.
2. تكسر احتكارات تحكم الدول في العملات.
3. فيها نظام إلكتروني يحميها من التحايل.
4.لها قيمة سوقية معترف بها بين المتعاملين.
 

[الثمنية في النقدين]

إن الله عز وجل قد خلق للناس النقدين (الذهب والفضة) وسيلة للمعاوضات، فجعل قلوب الناس وأفئدتهم تتهافت إليهما اتفاقا رغم اختلاف الأعمار والعقول والديانات والأفكار، وعليه صار معنى الثمنية مأخوذا منهما تعبدا في الأصح وإن ظهرت حكمة هذا المعنى بين الناس، وقد ترتب على ذلك أن أجرى الله فيهما الربا كما أجرى فيهما الزكاة.

ثم إن أمر الثمنية في النقدين معلوم عند الناس ولو لم يدركوا حقيقتها، فلو أنك عاوضت أي إنسان في أي قُطر من العالم بشيئ يملكه ويريد بيعه بشيئ من الذهب لرضي بالذهب والفضة مثمنا وبديلا مقوما دون غيره من المعادن والأشياء القيمة الثمينة، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان من العقلاء.

هنا نتكلم عن الثمنية وليس القيمة وحسب، فهناك أمور قيمة وثمينة كالألماس والزمرد والخيول وغيرها ولكن هذه الأشياء رغم قيمتها ورغم أننا قد نقول عنها بأنها ثمينة وقيمة إلا أنها ليست فيها الثمنية بالمعنى الشرعي والذي بيناه آنفا والتي ينبني عليها حكم الربا والزكاة.

وقد تحصلت الثمنية في النقدين بإرادة الله تعالى؛ فاجتمعت عوامل الثمنية فيهما من جعل القلوب تهفو إليهما وترغب فيهما على الدوام، وأنهما يسران الناظرين، وأن تداولهما سهل ممكن إذ هما مطاوعان في الصناعة فيتكيفان بالشكل المراد لا بسهولة تامة ولا بعسر تام، ثم إن مقدار وجودهما في البلدان معتدل ومتزن فلا انتشار لهما طاغ بحيث يمتلكهما أي أحد ولا ناقص بحيث يخل بقدر التداول والتعامل بهما. لكن يبقى السؤال لو أن معدنا آخر أخذ نفس صفاتهما فهل له حكمهما ابتداء في الثمنية؟ الراجح عند ساداتنا الشافعية لا؛ لأن الثمنية فيهما تعبدية منصوص عليها فيهما اقتصارا، فتنبه.

وفي مغني المحتاج ومثله في حاشية البيجيرمي على الخطيب وفي الإقناع ما نصه: "وعلة الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالبا كما صححه في المجموع ويعبر عنه أيضا بجوهرية الأثمان غالبا وهي منتفية عن الفلوس وغيرها من سائر العروض. واحترز بغالبا عن الفلوس إذا راجت فإنه لا ربا فيها كما مر، ولا أثر لقيمة الصنعة في ذلك حتى لو اشترى بدنانير ذهبا مصوغا قيمته أضعاف الدنانير اعتبرت المماثلة ولا نظر إلى القيمة .. " انتهى.

ثم اعلم أن ثمنية النقدين قد عوضدت أيضا بدعم الحكام والملوك لها لضمان عدم الغش فيهما حتى يبقى التداول بهما مستقرا تطمئن له النفوس مصانا رغم تتابع البلدان واختلاف الأزمان. وهذه الميزة ليست الميزة الوحيدة الموجودة في النقدين حتى نتكيء عليها وحدها في حكمنا فيعتبرها معارضنا انطلاقتنا الوحيدة في بناء حكمنا حتى ينقضه علينا بمداهنة الحكام والتذبذب معهم يمنة ويسرة حسب مزاجهم وما يريدون!! وإنما هي جانب من جوانب عدة لها اعتبارها كغيرها لا تعدو ذلك، فتنبه.

 

[النقدان والأوراق المالية]

إن الثمنية في النقدين ما زالت جارية فيهما رغم استبدال النقدين بما يسمى بالأوراق المالية، وغاية ما في الأمر أن الحكام جعلوا الأوراق المالية ممثلا عن النقدين في المعاوضات ليتم الحفاظ عليهما أكثر وأكثر في خزينة الدولة، لذلك فإن قيمة هذه الأوراق ليس في كونها ورقا مجردا وحسب وإنما لما تمثله من غطاء ذهبي وفضي في خزينة الدولة.

إن انفكاك ارتباط العملات عن الذهب والفضة في غالب البلدان اليوم وارتباطها بالدولار في مرحلة ما، ومن ثم انفكاكها عنه وارتباطها بسياسة البلد الخارجية وتعاونها مع القوى العالمية العظمى إنما هو انفكاك ظاهري شكلي يبين عواره عندما تحل كارثة بهذه البلدان اقتصادية كانت أو سياسية، فتجدهم حينها ولا بد يرجعون للمخزون الذهبي لهذه البلدة أو تلك! ما يعني أن المخزون الذهبي ما زال معتبرا ومرتبطا بهذه العملات الورقية وإن ادعت الحكومات انفكاك عملاتها عنه.

إن تمثيل هذه الأوراق للنقدين تمثيلا تاما يعد صحيحا معتبرا لأنها منطلقة من غطائهما –أي الذهب والفضة- وهو الأمر الذي يجعلها في حقيقتها كالنقدين من هذه الجهة وعليه فصار جريان الربا والزكاة فيها من هذا الوجه بخلاف الفلوس المنفكة عن النقدين كما سيأتي بيانه.

إذا علم ما سبق اتضح جليا أن هذه الثمنية لا توجد أبدا فيما يسمى بالبيتكوين ابتداء، فلا يمكن قياسها على النقدين وإعطاؤها ثمنيتهما، ثم ناهيك عن كونها لا تمثل دولا أو حكومات تغطيها في اعتبار قيمتها ابتداء أو ضمانها انتهاء وهو ما يعرضها للضرر والغرر الآتي تفصيلهما مع بقية أدلة التحريم.

 

[اعتراض وجواب]

ولا يعترض علينا معترض بكون بعض الدول قد تعاملت بالبيتكوين في بعض مؤسساتها أو بعض محافظها البنكية أو الوزارية فإن ذلك لا يدفع كون البيتكوين ما زالت كعملة افتراضية لا يعرف من أين تأخذ قيمتها هذا فضلا عن كونها لا تمتلك ثمنية شرعية حتى نجري فيها الربا والزكاة والمعاوضات الصحيحة فضلا عن بقية الأضرار الناتجة منها وعنها والتي غالبا ما يتعرض لها المتعامل بها.

ثم إن هذه الدول ليست مقياسا للشرع الحنيف إلا فيما قرره الشرع وأقره، ومعلوم أن كثيرا من الدول اليوم تتعامل بالربا في معاملاتها بل ولا تحكم شرع الله في بيوعها وما إلى ذلك من تجاوزات ومخالفات شرعية لا تخفى منها خافية! أفتكون هذه الدول بتفريطها لشرع الله وتهاونها بفعل هذه المحرمات حاكمة على الشرع ومشرعة لما حرم الله تحليلا وتشريعا؟! إن هذا لشيء عجيب!!

 

[البيتكوين والفلوس]

معلوم أن الغش وارد منذ القدم وعلى النقدين نفسيهما، لذلك شدد الحكام والملوك قبل ظهور العملات الورقية على أن تكون لدولهم عملات ذهبية مصكوكة بصكوص صعبة لا يمكن تزويرها إلا بصعوبة جدا، والصك هو ضرب العملة وسكها بكتابات تمثل حقبتها وقيمتها، ثم دأبوا على متابعتها على أرض الواقع حتى لا يقوم البعض بالغش فيها بصهرها وخلطها مع غيرها من المعادن لتقل جودتها ويستفيد العابث بها ما يستفيده رزقا حراما يُساءل عنه يوم الدين.

وقد تكلم فقهاؤنا عن هذه العملات المصكوكة وغير المصكوكة وعن المعبوث بها، بحيث جعلوا العبرة فيهما بالذهب على تفصيل ليس هنا محله.

ثم تكلموا أيضا عن الفلوس التي صُنِعَت وصُكَّت من غير النقدين كالنحاس مثلا، والتي جعل الناس لها اعتبارا سواء من قِبَل الحاكم أو من قِبَل تداول الناس لها بعضهم البعض واعتبارهم لها.

وكلامهم فيها يطول، والذي يعنينا منه هنا هو أنهم ذهبوا إلى عدم جريان الربويات والزكوات في الفلوس للفارق بينها وبين النقدين، ومع ذلك جوزوا التعاوض بهم بشروط، قال النووي في الروضة: "وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، فَقِيلَ: يَثْبُتُ الرِّبَا فِيهِمَا لِعَيْنِهِمَا، لَا لِعِلَّةٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْعِلَّةُ فِيهِمَا صَلَاحِيَةُ الثَّمَنِيَّةِ الْغَالِبَةِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جَوْهَرِيَّةُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا. وَالْعِبَارَتَانِ تَشْمَلَانِ التِّبْرَ، وَالْمَضْرُوبَ، وَالْحُلِيَّ، وَالْأَوَانِيَ مِنْهُمَا. وَفِي تَعَدِّي الْحُكْمِ إِلَى الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ وَجْهٌ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِمَا لِانْتِفَاءِ الثَّمَنِيَّةِ الْغَالِبَةِ. وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْفُلُوسِ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِهَا قَطْعًا." انتهى. وقال التقي الحصني في كفاية الاخيار:"(فرع) الفلوس إذا راجت رواج الذهب والفضة هل يجري فيها الربا الصحيح أنه لا ربا فيها لانتفاء الثمنية الغالبة فيها ولا يتعدى الربا إلى غير الفلوس من الحديد والنحاس والرصاص وغيرهما بلا خلاف والله أعلم" انتهى.

 

ولما سبق فهل يجوز للقائل أن يقول: فلم لا يجعل البيتكوين مثل هذه الفلوس بجامع تداولهما بين الناس وإمكان التعاوض بهما مع غيرهما وإن لم نجعلهما كالنقدين؟

نقول: إن تخريج البيتكوين على الفلوس بجامع ما ذكر غير صحيح وذلك لوجود فارق مؤثر بينهما وهو الغرر والضرر والجهالة وعدم الوجود حقيقة في البيتكوين، ثم إن وجود قاسم مشترك بين شيئين لا يعني صحة قياسهما على بعضهما ما دام هناك فارق مؤثر بينهما، فوجب على الفقيه التنبه لذلك.

نعم إن القاسم المشترك بين الفلوس والبيتكوين أنهما أخذا قوتهما في اعتبارهما في المعاوضات بتداول الناس لهما دون مركزية ترجعان إليها أو ثمنية تقومان عليها ابتداء ولكن الفارق بينهما أن الفلوس لها وجود حقيقي ظاهر ويمكن ضمانه بخلاف البيتكوين فلا يُعرف ما حقيقتها ومن الذي له الحق في التلاعب بسعرها؛ هل هو العرض والطلب أم أياد خفية في العالم الافتراضي يرفع سعرها تارة ويخفضه أخرى دون ضابط وانضباط، وفرق آخر وهو أن الفلوس يمكن تفادي الغرر والضرر والجهالة في التعامل بها بخلاف البيتكوين، وهذا فارق جوهري يجعلنا نعدل عن مقايستهما إلى الأخذ بالفارق المؤثر بينهما ومن ثم التفرقة بينهما.

فالقياس بين المتقايسين يصح ولو بوجه واحد لكن شريطة سقوط الفوارق المؤثرة في التفرقة بينهما، فإذا قامت الفوارق سقط القياس، فتأمل.

 

[الأدلة والقواعد المحرمة للبيتكوين]

هذا وليعلم المؤمن أن التحريم والتحليل لا يكون بهوى النفس ومزاجها وإنما يجب أن يكونا على أسس ينطلق منها الفقيه ليعصم جسده عن النار يوم الدين، هذه الأسس والأدلة وجب أن تكون مستقاة ‏من الشريعة الغراء؛ فقد قال الله عز وجل: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}.

‏لذا فإن العبد الضعيف يعرض الأدلة التي بنى عليها حكمه بحرمة التعامل بالبيتكوين متطابقة مع مذهب السادة الشافعية بل وجماهير الأمة في أغلبها، معتقدا بأنه حكم الشارع فيها، ويختصرها في الآتي:

‏أولا: الغرر، ومعناه الخطر، ويطلق على التعاقد الناشيء بين طرفين بخطر يلحق أحدهما في عاقبته، شريطة أن يكون الغرر غير مغتفر ومعفو عنه شرعا، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الغرر"، والبيتكوين فيها الغرر ظاهر فاحش إذ أنها غير معلومة ابتداء لمن يتعامل بها فضلا عن كون المخاطر محدقة بها من كل جانب للجهالة بها وبحقيقتها والموجبة للغرر.

قال الروياني في البحر: "الغرر ما تردد بين جائزين لا يترجح أحدهما على صاحبه".

قال التقي الحصني في كفاية الأخيار:"(ولا يجوز بيع الغرر) الأصل في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام: (نهى عن بيع الغرر) والغرر ما انطوى عنا عاقبته ثم الغرر تحته صور لا تكاد تنحصر" انتهى

ملاحظة: كل ما سيأتي بعد هذا السبب من أسباب فإنه يدخل في الغرر بالجملة.

 

ثانيا: جهالة الثمن: فثمن البيتكوين مجهول وغير منضبط انضباطا صحيحا معتبرا في الشرع، وعليه فهي عملة غير متقومة تقويما صحيحا، وإن علمنا ثمنها حالا بما أعطاها المتعاملون بها في حينه، فهذا العلم قاصر ولا يرفع جهالة ولا يصحح عقدا ولا بيعا؛ وذلك لما قدمناه من قبل بأن الأوراق النقدية إنما أخذت حكم النقدين لكونها أخذت قيمتها باعتبار المخزون الذهبي وباعتبار الاقتصاد وباعتبار ضمان الحاكم لها وهذا ما لا يوجد في البيتكوين، فثمنيتها مجهولة وإن حدد لها رقم معين حالا فإنه يعتريه الغرر المتقدم ذكره. بل هي غير موجودة أصلا إذ لا وجود لها في الظاهر ابتداء كما سيأتي بيانه قريبا.

قال ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: "وأجمعوا أن من باع سلعة بثمن مجهول غير معلوم ولا مسمى ولا عين قائمة أن البيع فاسد، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السنين وبيع الغرر. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز. وأجمعوا أن الثمن إذا كان مجهولا كان البيع فاسدا" انتهى.

بل إن ابن حزم رغم أنه جعل من الغرر ما هو شديد محرم وما هو غير محرم واستدل عليه بما استدل إلا أنه قال بنفسه في المحلى: "مَسْأَلَةُ: وَلَا يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ جُمْلَةٍ مُجْتَمِعَةٍ، لَا بِعَدَدٍ، وَلَا بِوَزْنٍ، وَلَا بِكَيْل ... بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا -: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذَ الْمَرْءِ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَسَمَّاهُ بَاطِلًا. وَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ التَّرَاضِيَ لَا يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إلَّا فِي مَعْلُومٍ مُتَمَيِّزٍ، وَكَيْفَ إنْ قَالَ الْبَائِعُ: أُعْطِيك مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى كَيْفَ الْعَمَلُ؟ وَمَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا بِالْإِجْبَارِ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَهَذَا ظُلْمٌ لَا خَفَاءَ بِهِ. وَبُرْهَانٌ آخَرُ - وَهُوَ «نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، وَلَا غَرَرَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ لَا يَدْرِي الْبَائِعُ أَيَّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي بَاعَ وَلَا يَدْرِي الْمُشْتَرِي أَيَّ شَيْءٍ اشْتَرَى، وَهَذَا حَرَامٌ بِلَا شَكٍّ." انتهى

فانظر كيف جعل عدم العلم بالعوض والمعاوض غررا منهيا عنه شرعا مع أنه جعل للغرر قسما جائزا؟! وهو ما جعلنا ننقل كلامه حتى لا يتكيء على أول كلامه أحد!! 

 

[اعتراض وجوابه]

ولا يقال هنا بأن الغرر المحرم إنما هو في البيوع وأن الكلام هنا عن عملة واستثمارها!!

فإنا نقول: بأن هذا تلاعب بالكلام؛ لأن الاستثمار في العملات يكون باعتبارها معاوضة يمكن بيعها بغيرها أو المعاوضة بها فيمكن بيع غيرها بها، والله عز وجل حثنا عند النظر إلى الأمور أن ننظر إلى حقيقتها دون التمسك بأسمائها فقال رادا على الكفار زعمهم أن الربا هو بيع وشراء بقوله تعالى: {وقالوا إنما البيع مثل الربا} فرد عليهم قائلا: {وأحل الله البيع وحرم الربا}؛ فالربا وإن كان في ظاهره شبيها بالبيع إذ هو معاوضة بين طرفين إلا أنه قد اعترته دواعي الحرمة والمنع فلا يصح لنا ولا يحل لنا تسميته بيعا وإعطاؤه صبغة الحِلِّية بعد ذلك، فكذلك البيتكوين لا يمكن إعطاؤها صبغة العملة الصحيحة أو الوجود الصحيح والاعتبار الصحيح وما شابه ذلك وهي ما زالت في عالم افتراضي يعتريها ما يعتريها مما يوجب منعها، فتأمل.

فالبيتكوين تحمل الغرر عند التعامل بها من حيث الجهالة بها وبثمنيتها وعلى أي أساس تعلو وتنخفض قيمتها، ومن حيث إنه لا وجود لها مضمون وموثوق بحيث يضمن متداولها ما ينتج عن بطلان التبايع بها أو فساده ويضمن مطالبته بما يترتب على ذلك قضاء.

قال التقي الحصني في كفاية الأخيار: ".. وكما يضر الجهل بالمبيع كذا يضر الجهل بقدر الثمن وبالمثمن إذا كان في البلد نقدان فأكثر وهي رائجة ويقاس بما ذكرنا باقي صور الغرر والله أعلم" انتهى

 

ثالثا: الجهل بالمبيع، هذا على اعتبار وافتراض أن البيتكوين بضاعة وليست بعملة كما خرجها البعض، فأيضا تأخذ حكم ما قبلها، قال في التحفة:"(الْخَامِسُ الْعِلْمُ بِهِ) أَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْنًا فِي الْمُعَيَّنِ، وَقَدْرًا وَصِفَةً فِيمَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ الْآتِي لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهُوَ مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا، وَقَدْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ أَوْ الْمُسَامَحَةِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ فِي اخْتِلَاطِ حَمَامِ الْبُرْجَ" انتهى

وقال أيضا: "(وَمَتَى كَانَ الْعِوَضُ) الثَّمَنُ أَوْ الْمُثَمَّنُ (مُعَيَّنًا) أَيْ مُشَاهَدًا (كَفَتْ مُعَايَنَتُهُ)، وَإِنْ جَهِلَا قَدْرَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحِيطَ التَّخْمِينُ بِه .. (وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ) الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ بِأَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ وَبَالِغًا فِي وَصْفِهِ أَوْ سَمْعِهِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ كَمَا يَأْتِي أَوْ رَآهُ لَيْلًا وَلَوْ فِي ضَوْءِ إنْ سَتَرَ الضَّوْءُ لَوْنَهُ كَوَرِقٍ أَبْيَضَ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنْ قُلْت صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ الْعُرْفِيَّةَ كَافِيَةٌ، وَهَذَا مِنْهَا وَعِبَارَتُهُ لَوْ طَلَبَ الرَّدَّ بِعَيْبٍ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ قَالَ لَمْ أَرَهُ إلَّا الْآنَ فَلَهُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَبِيعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّحَقُّقُ بَلْ تَكْفِي الرُّؤْيَةُ الْعُرْفِيَّةُ قُلْت لَيْسَ الْعُرْفُ الْمُطَّرِدُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ ظَاهِرًا بِحَيْثُ يَرَاهُ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْمَبِيعِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ الْعُرْفِيَّةِ هِيَ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ تَأَمُّلٍ وَرُؤْيَةُ نَحْوِ الْوَرِقِ لَيْلًا فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ مَعْرِفَةَ بَيَاضِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ... وَذَلِكَ لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تُفِيدُ مَا لَمْ تُفِدْهُ الْعِبَارَةُ كَمَا يَأْتِي .. (وَالثَّانِي) وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ (يَصِحُّ) الْبَيْعُ إنْ ذُكِرَ جِنْسُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَيَاهُ (وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ) لِلْمُشْتَرِي وَكَذَا الْبَائِعِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ (عِنْدَ الرُّؤْيَةِ) لِحَدِيثٍ فِيهِ ضَعِيفٍ بَلْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ بَاطِلٌ وَكَالْبَيْعِ الصُّلْحُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ وَنَحْوُهَا بِخِلَافِ نَحْوِ الْوَقْفِ." انتهى.

وقد تقدم معنا قول ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: "وأجمعوا أن من باع سلعة بثمن مجهول غير معلوم ولا مسمى ولا عين قائمة أن البيع فاسد، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السنين وبيع الغرر. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز. وأجمعوا أن الثمن إذا كان مجهولا كان البيع فاسدا" انتهى.

 

رابعا: الجهالة بالعاقد: وهو هنا إما البائع وإما المشتري، قال ابن حجر في التحفة: "(وشرط العاقد) البائع والمشتري الإبصار كما سيذكروه و (الرشد) ..." انتهى.

فإن لم يُعلم من هو أصلا هذا العاقد ولم تُعلم ذاته فهذا من باب أولى ألا يصح التعاقد معه؛ إذ عدم معرفة الذات تعني عدم تحقق الصفات من رشد وإبصار وغير ذلك من الصفات التي لها الاعتبار.


خامسا: الضرر: وهو ينتج عن كل ما تقدم أيضا، والقاعدة المشهورة في ذلك "لا ضرر ولا ضرار" و "الضرر يزال"، ومما سبق يتبين الضرر الناتج عن هذه العملة إذ الغرر جهالة والجهالة تسبب الضرر للنفس أو للآخرين وهو أمر محرم؛ بل إني سمعت البعض يحكي ما نتج مؤخرا بعد ركود السوق وظهور عوار هذه العملة من إضرارها بكثير من الناس.

 

[اعتراض وجوابه]

ولا يقال هنا بأن للبيتكوين منافع أيضا فلم لم تؤخذ هذه المنافع بعين الاعتبار بينما أخذت المفاسد؟

فالجواب: لأن القاعدة الشرعية المشهورة تقول: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) ولأن المفسدة جعلها الشارع مؤثرة في الأحكام المنعَ فأمرنا بدفعها إلا إذا تعلق خطاب الشارع بها طلبا، وأما المنفعة فلم يجعلها مؤثرة إلا إذا طلبها الشارع وأنه إذا تعارضتا فقد قدم الشارع دفع المفاسد على جلب المصالح، وقد قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} فحرم الشرع الحنيف الخمر معرضا عن الفوائد التي فيها، والآية أصل لهذه القاعدة الشرعية المليحة، فتأمل.

 

[تنبيه وعظة]

هذا ولا يعني التربح من معاملة ما أو تتابع أرباحها زيادةً جواز تعاطيها، وهو مما يقع فيه كثير من الناس اليوم، وإذا ما استفاق أحدهم من سباته سأل عن حكم معاملاته بعد أن أبرهما وعقدها وخرج بخراجها!! فالربح ليس دليلا على الجواز وإنما قد يكون اختبارا للمؤمن هل ينجرف مغترا به ومندفعا خلفه مغلبا شهوته دون النظر لحكم ربه أم يكون وقافا عند أحكام الشرع. نسأل الله السلامة والثبات.

 

سادسا: عدم التقابض، ثم شبهة البيع قبل التقابض وقبل تمام الملك: وهو سبب مختص ببعض المذاهب دون غيرها، وهو -أعني التقابض- عند الشافعية ركن أصيل في البيوع والمعاملات، وهو في الربويات أشد بل قد اتفقت عليه آراء الفقهاء في أوجه كثيرة منه.

قال العلامة الفقيه ابن حجر الهيتمي في التحفة: "(الرَّابِعُ الْمِلْكُ) فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ التَّامُّ فَخَرَجَ بَيْعُ نَحْوِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ (لِمَنْ) يَقَعُ (لَهُ الْعَقْدُ) مِنْ عَاقِدٍ أَوْ مُوَكِّلِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ .." انتهى.

 

سابعا: انعدام الصيغة: ومذهب ساداتنا الشافعية اشتراطها في الراجح من المذهب إلا أننا نذكرها من الأسباب الموهنة للتجويز رغم وجود الخلاف فيها في المذهب بل وبين بقية المذاهب لأن عدم اعتبار الصيغة شرطا وعدم إيقاعها عند التعاقد يوقع المرء على أقل تقدير في الشبهة ولو كان آخذا بقول المرخصين، والمعلوم أن الخروج من الخلاف أسلم للدين لمن احتاط وخاف، قال ابن حجر في التحفة في شروط البيع: "(شرطه) الذي لا بد منه لوجود صورته الشرعية في الوجود ولو في بيع ماله لولده ... (الإيجاب) من البائع ولو هزلا، وهو صريحا ما دل على التمليك دلالة قوية مما اشتهر وتكرر على ألسنة حملة الشرع وستأتي الكناية لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} مع الحديث الصحيح «إنما البيع عن تراض»، وهو خفي فأنيط بظاهر هو الصيغة فلا ينعقد بالمعاطاة، وهي أن يتراضيا بثمن ولو مع السكوت منهما واختار المصنف كجمع انعقاده بها في كل ما يعده الناس بها بيعا وآخرون في محقر كرغيف، والاستجرار من بياع باطل اتفاقا أي إلا إن قدر الثمن في كل مرة على أن الغزالي سامح فيه بناء على جواز المعاطاة وعلى الأصح لا مطالبة بها أي من حيث المال بخلاف تعاطي العقد الفاسد إذا لم يوجد له مكفر كما هو ظاهر في الآخرة للرضا وللخلاف فيها ويجري خلافها في سائر العقود المالية" انتهى

 

[اختلاف الناس في حكم البيتكوين]

وعلى الرغم مما ذكرناه فإن الناس في زماننا قد اختلفوا في حكم التعامل بالبيتكوين، فبعضهم جزم بحرمتها وهم الأكثر ومن ذلك دار الإفتاء المصرية، ومنهم من جوزها وهم أفراد معدودون، ومنهم من توقف لعدم وضوحها عنده.

والعبد الضعيف اختار الحرمة انطلاقا مما سبق مع التنبيه على أن الحرمة حكم عارض مبني على فقدان هذه العملة لشروط وأركان الجواز، فإذا ما توافرت فيها الشروط والأركان فإن الحكم يتغير حينها بلا شك.

ثم اعلم أن جميع من حكم على هذه العملات بعمومها إما محرما وإما متوقفا وإما مجوزا لها قد يكون مصيبا بالنسبة لما وصل إليه علمه؛ فمن وصله أن هذه العملة أو ما ماثلها من العملات قد توافرت فيها الشروط والأركان فإن تجويزه لها صحيح، ومن لم يصله شيء عنها أو قصر علمه فيها فتوقف في أمرها إلى أن يستبين ففعله صحيح وقد حافظ على دينه، كذلك من وصله بأنه قد توافرت فيها دواعي التحريم إما بالإخلال بالشروط أو بطرو موانع الحل فإن تحريمه لها صحيح ولكن وجب عليه أن يبين أن تحريمه له أدلته وأسبابه كما فعلنا هنا مع البيتكوين حيث حددنا أوجه منعنا لها بخصوصها، ويقاس عليها ما ماثلها، وبينا أيضا أنها وما ماثلها لو توافرت فيهم الشروط والأركان وانتفت عنهم الموانع لتغير الحكم من التحريم إلى التجويز إذ هذه الأحكام عارضة مشروطة، ولا يحق لأحد أن ينكر علينا تحريمنا العارض لها مدعيا بأننا نجهل بنودها لكونه هو يجهلها! أو معتقدا أننا متسرعون بالطعن على كل ما هو جديد ليضعنا في خانة حزب المتشددين المتهورين المندفعين كالمحرمين للساتلايت والكاميرا والتلفزيون بداية ظهورها ثم هم الآن أول المجوزين المتقهقرين وفي هذه المحرمات مستغرقين!! فإن التحريم منالم يكن مبنيا على ما توهمه من طفولية في النقد والطرح والتخريج والتأصيل وإنما على علم وفهم بأن الجهالة من طرفي التعاقد أصل أصيل في فساد العقود وهو متحقق في البيتكوين لا محالة فضلا عن انتفاء أركان البيع الصحيح وشروطه فيها، بل مكوثها سنين وحتى الآن لم يستطع أحد أن يفصح عنها فصاحة يزيل بها الإشكال الساتر لها لأكبر دليل على أصالة الجهالة فيها والتي تمنع جواز التعاقد بها في شريعتنا، ويعرف ذلك أدنى متعلم للفقه من طويلبة العلم فضلا ممن يدعي في نفسه مغترا بما ينعته الناس بأنه من أهل الاختصاص وهو يلاسن في هذه القواعد المسلمات بسخافة قاله من عقل خياله!! ويريد منا أن ننتظر سنين طويلة أخرى بدعوى التريث والتحقق لنجاريه في كسله وإهماله!! سنين يرتع فيها الراتعون في حرامهم جاهلون أو عالمون، وينشئ فيها المنشئون عقودا تتبعها عقود وهم فيها مقتحمون!! فبالأمس (البيتكوين) واليوم (الان اف تي NFT)!! وغدا لا ندري ما يُحدِثون ونحن بين نائم وبين متقاعس منتقد لمن يفتي!!

فلا أوقفنا أجسادا غذيت بالحرام أو بالشبهات عن الحرام والشبهات، ولا رفعنا عن الناس الجهالات فاستبرأنا لأدياننا وأعراضنا وأموالنا وأقواتنا، وفي المقابل أنشأ أهل الباطل ما استجد من باطلهم عُمُلات ومعاملات!! وصورا في الحرام متنوعات مستجدات!! وقع فيها من وقع وسلم الله من سلم ومنع.

والحق أننا مع التريث في الفتوى وأن مجالها ضيق عسر وخصوصا فيما استجد من المسايل والقضايا والنوازل وأنها لا تجوز ولا تصح بالهوى بل بشروطها المعتبرة، إلا أننا أيضا ضد التقاعس والتثبيط ممن مبلغه من العلم الكسل والخذلان وإذا سئل فيما استجد قال: في المسئلة وجهان!! ويكأن الفتوى حكرا عليه، مغترا برجوع الناس إليه، ولا هو بحث ولا اجتهد! ولا ترك غيره بالخير يرد!! ثم ذهب بعرض من الدنيا قليل، ليرضي الناس بكثرة التحليل والتعنيف على الغير بالتهويل!! نسأل الله السلامة والتوفيق، وسلوك أقوم طريق، بالعلم والعمل باطنا وظاهرا، أولا وآخرا.

 

 

[خاتمة]

إن حكم البيتكوين وبعد بحثنا ولما تقدم تقريره هو الحرمة، وإن المؤمن الحريص على دينه وإن لم يقنع بما ذكرناه للاشتباه إلا أنه وقاف عند الشبهات فلا يقتحمها لجمع حطام من الدنيا زائل ولو بعد حين، فإن العبد يبقى ما بينه وبين الله عامرا مجابا دعاؤه مقبولا ما دام مأكله حلال ومشربه حلال وغذي بالحلال حتى يترك ذلك فأنَّى يستجاب له؟!

وإني قد بذلت الجهد قدر الوسع، مختصرا الجواب في هذه الورقات بأرشق عبارات، سهلة مفهومة، وبالعلم موسومة، حتى يعم النفع، سائلا الله المولى العلي العظيم أن نكون وُفِّقنا للصواب في الجواب وأن نكون قد أزلنا عن الجهل الحجاب ورفعنا عن هذه المسألة النقاب، والله الموفق للصواب هو نعم المولى ونعم المعين الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله والأصحاب.

 

 

وكتبه/ المفتقر لمولاه الرحمن

أيوب بن رشدان

تم الفراغ منه يوم الأحد

2/ربيع الثاني/1443هـ

الموافق 7/11/2021م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق